ما يعوق عن الخلوة فيكون من أثقل الأشياء على القلب كما روي أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه مكث دهراً لا يسمع كلام أحد من الناس إلا أخذه الغثيان لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره فيخرج من القلب عذوبة ما سواه
ولذلك قال بعض الحكماء في دعائه يا من آنسني بذكره وأوحشني من خلقه وقال الله عز وجل لداود عليه السلام كن لي مشتاقاً وبي متأنساً ومن سواي مستوحشاً وقيل لرابعة بم نلت هذه المنزلة قالت بتركي ما لا يعنيني وأنسي بمن لم يزل
وقال عبد الواحد بن زيد مررت براهب فقلت له يا راهب لقد أعجبتك الوحدة فقال يا هذا لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك الوحدة رأس العبادة فقلت يا راهب ما أقل ما تجده في الوحدة قال الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرهم قلت يا راهب متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى قال إذا صفا الود وخلصت المعاملة قلت ومتى يصفو الود قال إذا اجتمع الهم فصار هما واحد في الطاعة وقال بعض الحكماء عجباً للخلائق كيف أرادوا بك بدلاً عجباً للقلوب كيف استأنست بسواك عنك
فإن قلت فما علامة الأنس فاعلم أن علامته الخاصة ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم واستهتاره بعذوبة الذكر فإن خالط فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة وغريب في حضر وحاضر في سفر وشاهد في غيبة وغائب في حضور مخالط بالبدن منفرد بالقلب مستغرق بعذوبة الذكر كما قال علي كرم الله وجهه في وصفهم هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعر المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه
فهذا معنى الأنس بالله وهذه علامته وهذه شواهده
وقد ذهب بعض المتكلمين إلى إنكار الأنس والشوق والحب لظنه أن ذلك يدل على التشبيه وجهله بأن جمال المدركات بالبصائر أكمل من جمال المبصرات ولذة معرفتها أغلب على ذوي القلوب ومنهم أحمد بن غالب يعرف بغلام الخليل أنكر على الجنيد وعلى أبي الحسن النوري والجماعة حديث الحب والشوق والعشق حتى أنكر بعضهم مقام الرضا وقال ليس إلا الصبر فأما الرضا فغير متصور
وهذا كله كلام ناقص قاصر لم يطلع من مقامات الدين إلا على القشور فظن أنه لا وجود إلا للقشر فإن المحسوسات وكل ما يدخل في الخيال من طريق الدين قشر مجرد ووراءه اللب المطلوب فمن لم يصل من الجوز إلا إلى قشره يظن أن الجوز خشب كله ويستحيل عنده خروج الدهن منه لا محالة وهو معذور ولكن عذره غير مقبول وقد قيل
الأنس بالله لا يحويه بطال ... وليس يدركه بالحول محتال
والآنسون رجال كلهم نجب ... وكلهم صفوة لله عمال
[بيان معنى الانبساط والإدلال الذي تثمره غلبة الأنس]
اعلم أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف التغير والحجاب فإنه يثمر نوعاً من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى وقد يكون منكر الصورة لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة ولكنه محتمل ممن أقيم في مقام الأنس ومن لم يقم في ذلك المقام ويتشبه بهم في الفعل والكلام هلك به وأشرف على الكفر
ومثاله مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل