دالة على وجوده فلا ينبغي أن ينكره من فقده من نفسه لأنه إنما فقده لفقد سببه وهو فرط حبه ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه فللمحبين عجائب أعظم مما وصفناه
وقد روى عن عمرو بن الحارث الرافعي قال كنت في مجلس بالرقة عند صديق لي وكان معنا فتى يتعشق جارية مغنية وكانت معنا في المجلس فضربت بالقضيب وغنت
علامة ذل الهوى ... على العاشقين البكا
ولا سيما عاشق ... إذا لم يجد مشتكى
فقال لها الفتى أحسنت والله يا سيدتي أفتأذنين لي أن أموت فقالت مت راشداً قال فوضع رأسه على الوسادة وأطبق فمه وغمض عينيه فحركناه فإذا هو ميت
وقال الجنيد رأيت رجلاً متعلقاً بكم صبي وهو يتضرع إليه ويظهر له المحبة فالتفت إليه الصبي وقال له إلى متى ذا النفاق الذي تظهر لي فقال قد علم الله أني صادق فيما أورده حتى لو قلت لي مت لمت فقال إن كنت صادقاً فمت قال فتنحى الرجل وغمض عينيه فوجد ميتاً وقال سمنون المحب كان في جيراننا رجل وله جارية يحبها غاية الحب فاعتلت الجارية فجلس الرجل ليصلح لها حيسا فبينا هو يحرك القدر إذ قالت الجارية آه قال فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده وجعل يحرك ما في القدر بيده حتى سقطت أصابعه فقالت الجارية ما هذا قال هذا مكان قولك آه
وحكى عن محمد ابن عبد الله البغدادي قال رأيت بالبصرة شاباً على سطح مرتفع وقد أشرف على الناس وهو يقول
من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت
ثم رمى بنفسه إلى الأرض فحملوه ميتاً
فهذا وأمثاله قد يصدق به في حب المخلوق والتصديق به في حب الخالق أولى لأن البصيرة الباطنة أصدق من البصر الظاهر وجمال الحضرة الربانية أو في من كل جمال بل كل جمال في العالم فهو حسنة من حسنات ذلك الجمال
نعم الذي فقد البصر ينكر جمال الصور والذي فقد السمع ينكر لذة الألحان والنغمات الموزونة فالذي فقد القلب لا بد وأن ينكر أيضاً هذه اللذات التي لامظنة لها سوى القلب
[بيان أن الدعاء غير مناقض للرضا]
ولا يخرج صاحبه عن مقام الرضا وكذلك كراهة المعاصي ومقت أهلها ومقت أسبابها والسعي في إزالتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يناقضه أيضاً
وقد غلط في ذلك بعض البطالين المغترين وزعم أن المعاصي والفجور والكفر من قضاء الله وقدره عز وجل فيجب الرضا به وهذا جهل بالتأويل وغفلة عن أسرار الشرع فأما الدعاء فقد تعبدنا به وكثرة دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام على ما نقلناه في كتاب الدعوات تدل عليه ولقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى المقامات من الرضا
وقد أثنى الله تعالى على بعض عباده بقوله {ويدعوننا رغبا ورهبا} وأما إنكار المعاصي وكراهتها وعدم الرضا بها فقد تعبد الله به عباده وذمهم على الرضا به فقال {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} وقال تعالى {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم} وفي الخبر المشهور من شهد منكراً فرضي به فكأنه قد فعله وفي الحديث الدال على الشر كفاعله (١) وعن ابن مسعود إن العبد ليغيب عن المنكر ويكون عليه مثل وزر صاحبه وقيل وكيف ذلك قال يبلغه فيرضى به وفي الخبر لو أن عبداً قتل بالمشرق ورضي بقتله آخر بالمغرب كان
(١) حديث الدال على الشر كفاعله أخرجه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث أنس بإسناد ضعيف جدا