إلى السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والغيم والمطر وسائر الجمادات والثانية النظر إلى اختيار الحيوانات وهي أعظم العقبتين وأخطرهما وبقطعهما كمال سر التوحيد فلذلك عظم ثواب هذه الكلمة أعني ثواب المشاهدة التي هذه الكلمة ترجمتها فإذا رجع حال التوكل إلى التبري من الحول والقوة والتوكل على الواحد الحق وسيتضح عند ذكرنا تفصيل أعمال التوكل إن شاء الله تعالى
[بيان ما قاله الشيوخ في أحوال التوكل]
ليتبين أن شيئاً منها لا يخرج عما ذكرنا ولكن كل واحد يشير إلى بعض الأحوال فقد قال أبو موسى الديلي قلت لأبي يزيد ما التوكل فقال ما تقول أنت قلت إن أصحابنا يقولون لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك ما تحرك لذلك سرك فقال أبو يزيد نعم هذا قريب ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ثم وقع بك تمييز بينهما خرجت من جملة التوكل فما ذكره أبو موسى فهو خبر عن أجل أحوال التوكل وهو المقام الثالث وما ذكره أبو يزيد عبارة عن أعز أنواع العلم الذي هو من أصول التوكل وهو العلم بالحكمة وأن ما فعله الله تعالى فعله بالواجب فلا تمييز بين أهل النار وأهل الجنة بالإضافة إلى أصل العدل والحكمة وهذا أغمض أنواع العلم ووراءه سر القدر وأبو يزيد قلما يتكلم إلا عن أعلى المقامات وأقصى الدرجات وليس ترك الاحتراز عن الحيات شرطاً في المقام الأول من التوكل فقد احترز أبو بكر رضي الله عنه في الغار إذ سد منافذ الحيات (١) إلا أن يقال فعل ذلك برجله ولم يتغير بسببه سره أو يقال إنما فعل ذلك شفقة في حق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا في حق نفسه وإنما يزول التوكل بتحرك سره وتغيره لأمر يرجع إلى نفسه وللنظر في هذا مجال ولكن سيأتي بيان أن أمثال ذلك وأكثر منه لا يناقض التوكل فإن حركة السر من الحيات هو الخوف وحق المتوكل أن يخاف مسلط الحيات إذ لا حول للحيات ولا قوة لها إلا بالله فإن احترز لم يكن اتكاله على تدبيره وحوله وقوته في الاحتراز بل على خالق الحول والقوة والتدبير
وسئل ذو النون المصري عن التوكل فقال خلع الأرباب وقطع الأسباب فخلع الأرباب إشارة إلى علم التوحيد وقطع الأسباب إشارة إلى الأعمال وليس فيه تعرض صريح للحال وإن كان اللفظ يتضمنه فقيل له زدنا فقال إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية وهذا إشارة إلى التبري من الحول والقوة فقط
وسئل حمدون القصار عن التوكل فقال إن كان لك عشرة آلاف درهم وعليك دانق دين لم تأمن أن تموت ويبقى دينك في عنقك ولو كان عليك عشرة آلاف درهم دين من غير أن تترك لها وفاء لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها عنك وهذا إشارة إلى مجرد الإيمان بسعة القدرة وأن في المقدورات أسباباً خفية سوى هذه الأسباب الظاهرة
وسئل أبو عبد الله القرشي عن التوكل فقال التعلق بالله تعالى في كل حال فقال السائل زدني فقال ترك كل سبب يوصل إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك فالأول عام للمقامات الثلاث والثاني إشارة إلى المقام الثالث خاصة وهو مثل توكل إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ قال له جبريل عليه السلام ألك حاجة فقال أما إلبك فلا إذ كان سؤاله سبباً يفضي إلى سبب وهو حفظ جبريل له فترك ذلك ثقة بأن الله تعالى إن أراد سخر جبريل لذلك فيكون هو المتولي لذلك وهذا حال مبهوت غائب عن نفسه بالله تعالى فلم ير معه غيره
(١) حديث إن أبا بكر سد منافذ الحيات فى الغار شفقة على النبي صلى الله عليه وسلم تقدم