والأسماء التي قرعت سمعهم فتلقنوها وحفظوها وربما تخيلوا لها معاني يتعالى عنها رب الأرباب وربما لم يطلعوا على حقيقتها ولا تخيلوا لها معنى فاسداً بل آمنوا بها إيمان تسليم وتصديق واشتغلوا بالعمل وتركوا البحث وهؤلاء هم أهل السلامة من أصحاب اليمين والمتخيلون هم الضالون والعارفون بالحقائق هم المقربون
وقد ذكر الله حال الأصناف الثلاثة في قوله تعالى {فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم} الآية
فإن كنت لا تفهم الأمور إلا بالأمثلة فلنضرب لتفاوت الحب مثالاً فنقول أصحاب الشافعي مثلاً يشتركون في حب الشافعي رحمه الله الفقهاء منهم والعوام لأنهم مشتركون في معرفة فضله ودينه وحسن سيرته ومحامد خصاله ولكن العامي يعرف علمه مجملاً والفقيه يعرفه مفصلاً فتكون معرفة الفقيه به أتم وإعجابه به وحبه له أشد فإن من رأى تصنيف مصنف فاستحسنه وعرف به فضله أحبه لا محالة ومال إليه قلبه فإن رأى تصنيفا آخر أحسن منه وأعجب تضاعف لا محالة حبه لأنه تضاعفت معرفته بعلمه وكذلك يعتقد الرجل في الشاعر أنه حسن الشعر فيحبه فإذا سمع من غرائب شعره ما عظم فيه حذقه وصنعته ازداد به معرفة وازداد له حباً وكذا سائر الصناعات والفضائل
والعامي قد يسمع أن فلاناً مصنف وأنه حسن التصنيف ولكن لا يدرى ما في التصنيف فيكون له معرفة مجملة ويكون له بحسبه ميل مجمل والبصير إذا فتش عن التصانيف واطلع على ما فيها من العجائب تضاعف حبه لا محالة لأن عجائب الصنعة والشعر والتصنيف تدل على كمال صفات الفاعل والمصنف والعالم بجملته صنع الله تعالى وتصنيفه والعامي يعلم ذلك ويعتقده وأما البصير فإنه يطالع تفصيل صنع الله تعالى فيه حتى يرى في البعوض مثلاً من عجائب صنعه ما ينبهر به عقله ويتحير فيه لبه ويزداد بسببه لا محالة عظمة الله وجلاله وكمال صفاته في قلبه فيزداد له حباً وكلما ازداد على أعاجيب صنع الله إطلاعاً استدل بذلك على عظمة الله الصانع وجلاله وازداد به معرفة وله حباً
وبحر هذه المعرفة أعنى معرفة عجائب صنع الله تعالى بحر لا ساحل له فلا جرم تفاوت أهل المعرفة في الحب لا حصر له ومما يتفاوت بسببه الحب اختلاف الأسباب الخمسة التي ذكرناها للحب فإن من يحب الله مثلاً لكونه محسناً إليه منعماً عليه ولم يحبه لذاته ضعفت محبته إذ تتغير بتغير الإحسان فلا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرضا والنعماء
وأما من يحبه لذاته ولأنه مستحق للحب بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان إليه
فهذا وأمثاله هو سبب تفاوت الناس في المحبة
والتفاوت في المحبة هو السبب للتفاوت في سعادة الآخرة
ولذلك قال تعالى {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً}
[بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله سبحانه]
اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى وكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أول المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول وترى الأمر بالضد من ذلك فلا بد من بيان السبب فيه
وإنما قلنا إنه أظهر الموجودات وأجلاها لمعنى لا تفهمه إلا بمثال وهو أنا إذا رأينا إنساناً يكتب أو يخيط مثلاً كان كونه حياً عندنا من أظهر الموجودات فحياته وعلمه وقدرته وإرادته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة إذصفاته الباطنة كشهوته وغضبه وخلقه وصحته ومرضه وكل ذلك لا نعرفه وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها وبعضها نشك فيه كمقدار طوله واختلاف لون بشرته وغير ذلك من صفاته
أما حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيواناً فإنه جلي عندنا من غير أن يتعلق حس البصر بحياته وقدرته وإرادته فإن هذه الصفات