كله من تصنيفه بل تصنيف المصنفين من تصنيفه الذي صنفه بواسطة قلوب عباده فإن تعجبت من تصنيف فلا تتعجب من المصنف بل من الذي سخر المصنف لتصنيفه بما أنعم عليه من هدايته وتسديده وتعريفه كما إذا رأيت لعب المشعوذ ترقص وتتحرك حركات موزونة متناسبة فلا تعجب من اللعب فإنها خرق محركة لا متحركة ولكن تعجب من حذق المشعوذ المحرك لها بروابط دقيقة خفية عن الأبصار فإذن المقصود أن غذاء النبات لا يتم إلا بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب ولا يتم ذلك إلا بالأفلاك التي هي مركوزة فيها ولا تتم الأفلاك إلا بحركانها ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها وكذلك يتمادى ذلك إلى أسباب بعيدة تركنا ذكرها تنبيهاً بما ذكرناه على ما أهملناه ولنقتصر على هذا من ذكر أسباب غذاء النبات
[الطرف الخامس في نعم الله تعالى في الأسباب الموصلة للأطعمة إليك]
اعلم أن هذه الأطعمة كلها لا توجد في كل مكان بل لها شروط مخصوصة لأجلها توجد في بعض الأماكن دون بعض والناس منتشرون على وجه الأرض وقد تبعد عنهم الأطعمة ويحول بينهم وبينها البحار والبراري فانظر كيف سخر الله تعالى التجار وسلط عليهم حرص حب المال وشهوة الربح مع أنهم لا يغنيهم في غالب الأمر شيء بل يجمعون فإما أن تغرق بها السفن أو تنهبها قطاع الطريق أو يموتوا في بعض البلاد فيأخذها السلاطين وأحسن أحوالهم أن يأخذها ورثتهم وهم أشد أعدائهم لو عرفوا فانظر كيف سلط الله الجهل والغفلة عليهم حتى يقاسوا الشدائد في طلب الربح ويركبوا الأخطار ويغرروا بالأرواح في ركوب البحر فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك وانظر كيف علمهم الله تعالى صناعة السفن وكيفية الركوب فيها وانظر كيف خلق الحيوانات وسخرها للركوب والحمل في البراري وانظر إلى الإبل كيف خلقت وإلى الفرس كيف أمدت بسرعة الحركة وإلى الحمار كيف جعل صبوراً على التعب وإلى الجمال كيف تقطع البراري وتطوي المراحل تحت الأعباء الثقيلة على الجوع والعطش وانظر كيف سيرهم الله تعالى بواسطة السفن والحيوانات في البر والبحر ليحملوا إليك الأطعمة وسائر الحوائج وتأمل ما يحتاج إليه الحيوانات من أسبابها وأدواتها وعلفها وما تحتاج إليه السفن فقد خلق الله تعالى جميع ذلك إلى حد الحاجة وفوق الحاجة وإحصاء ذلك غير ممكن ويتمادى ذلك إلى أمور خارجة عن الحصر نرى تركها طلباً للإيجاز
[الطرف السادس في إصلاح الأطعمة]
اعلم أن الذي ينبت في الأرض من النبات وما يخلق من الحيوانات لا يمكن أن يقضم ويؤكل وهو كذلك بل لا بد في كل واحد من إصلاح وطبخ وتركيب وتنظيف بإلقاء البعض وإبقاء البعض إلى أمور أخر لا تحصى واستقصاء ذلك في كل طعام يطول فلنعين رغيفاً واحداً ولننظر إلى ما يحتاج إليه الرغيف الواحد حتى يستدير ويصلح للأكل من بعد إلقاء البذر في الأرض فأول ما يحتاج إليه الحارث ليزرع ويصلح الأرض ثم الثور الذي يثير الأرض والفدان وجميع أسبابه ثم بعد ذلك التعهد بسقي الماء مدة ثم تنقية الأرض من الحشيش ثم الحصاد ثم الفرك والتنقية ثم الطحن ثم العجين ثم الخير فتأمل عدد هذه الأفعال التي ذكرناها وما لم نذكره وعدد الأشخاص القائمين بها وعدد الآلات التي يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيره وانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والطحن والخبز من نجار وحداد وغيرهما وانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس وانظر كيف خلق الله تعالى