لا نفتي في مسألة إلا رد علينا يعني أبا حنيفة فقال ابن شبرمة لا أدري أهو ابن الحائك أم ما هو لكن اعلم أن الدنيا غدت إليه فهرب منها وهربت منا فطلبناها وكذلك قال جميع المسلمين عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إنا نحب ربنا ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه حتى نزل قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم (١)
قال ابن مسعود رحمه الله قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت منهم يعني من القليل قال وما عرفت أن فينا من يحب الدنيا حتى نزل قوله تعالى منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة واعلم أنه ليس من الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء والفتوة وعلى سبيل استمالة القلوب وعلى سبيل الطمع فذلك كله من محاسن العادات ولكن لا مدخل لشيء منه في العبادات وإنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة فأما كل نوع من الترك فإنه يتصور ممن لا يؤمن بالآخرة فذلك قد يكون مروءة وفتوة وسخاء وحسن خلق ولكن لا يكون زهداً إذ حسن الذكر وميل القلوب من حظوظ العاجلة وهي ألذ وأهنأ من المال وكما أن ترك المال على سبيل السلم طمعاً في العوض ليس من الزهد فكذلك تركه طمعاً في الذكر والثناء والاشتهار بالفتوة والسخاء واستثقالاً له لما في حفظ المال من المشقة والعناء
والحاجة إلى التذلل للسلاطين والأغنياء ليس من الزهد أصلاً بل هو استعجال حظ آخر للنفس بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم ولا فوات حظ للنفس فتركها خوفاً من أن يأنس بها فيكون آنساً بغير الله ومحباً لما سوى الله ويكون مشركاً في حب الله تعالى غيره
أو تركها طمعاً في ثواب الله في الآخرة فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعاً في أشربة الجنة وترك التمتع بالسراري والنسوان طمعاً في الحور العين وترك التفرج في البساتين طمعاً في بساتين الجنة وأشجارها وترك التزين والتجمل بزينة الدنيا طمعاً في زينة الجنة وترك المطاعم اللذيذة طمعاً في فواكه الجنة وخوفاً من أن يقال له أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا فآثر في جميع ذلك ما وعد به في الجنة على ما تيسر له في الدنيا عفوا وصفوا لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى وأن ما سوى هذا فمعاملات دنيوية لا جدوى لها في الآخرة أصلاً
[بيان فضيلة الزهد]
قال الله تعالى فخرج على قومه في زينته إلى قوله
تعالى وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن فنسب الزهد إلى العلماء ووصف أهله بالعلم وهو غاية الثناء وَقَالَ تَعَالَى أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صبروا وجاء في التفسير على الزهد في الدنيا وقال عز وجل إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لنبلوهم أيهم أحسن عملاً قيل معناه أيهم أزهد فيها فوصف الزهد بأنه من أحسن الأعمال وَقَالَ تَعَالَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة من نصيب وقال تَعَالَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فيه ورزق ربك خير وأبقى وقال تعالى الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فوصف الكفار بذلك فمفهومه أن المؤمن هو الذي يتصف بنقيضه وهو أن يستحب الآخرة على الحياة الدنيا
(١) حديث قال المسلمون إنا نحب ربنا ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه حتى نزل قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم الآية لم أقف له على أصل