خير وأبقى وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إما لضعف علمه ويقينه وإما لاستيلاء الشهوة في الحال عليه وكونه مقهوراً في يد الشيطان وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان في التسويف يوماً بعد يوم إلى أن يختطفه الموت ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت وإلى تعريف خساسة الدنيا الإشارة بقوله تعالى قل متاع الدنيا قليل وإلى تعريف نفاسة الآخرة الإشارة بقوله عز وجل وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير فنبه على أن العلم بنفاسة الجوهر هو المرغب عن عوضه ولما لم يتصور الزهد إلا بمعاوضة ورغبة عن المحبوب في أحب منه قال رجل في دعائه اللهم أرني الدنيا كما تراها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل هكذا ولكن قل أرني الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك (١) وهذا لأن الله تعالى يراها حقيرة كما هي وكل مخلوق فهو بالإضافة إلى جلاله حقيرة والعبد يراها حقيرة في نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له ولا يتصور أن يرى بائع الفرس وإن رغب عنه فرسه كما يرى حشرات الأرض مثلاً لأنه مستغن عن الحشرات أصلاً وليس مستغنياً عن الفرس والله تعالى غني بذاته عن كل ما سواه فيرى الكل في درجة واحدة بالإضافة إلى جلاله ويراه متفاوتاً بالإضافة إلى غيره والزاهد هو الذي يرى تفاوته بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره وأما العمل الصادر عن حال الزهد فهو ترك واحد لأنه بيع ومعاملة واستبدال للذي هو خير بالذي هو أدنى فكما أن العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع وإخراجه من اليد وأخذ العوض فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلية وهي الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها فيخرج من القلب حبها ويدخل حب الطاعات ويخرج من العين واليد ما أخرجه من القلب ويوظف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف الطاعات وإلا كان كمن سلم المبيع ولم يأخذ الثمن فإذا وفى بشرط الجانبين في الآخذ والترك فليستبشر ببيعه الذي بايع به فإن الذي بايعه بهذا البيع وفي بالعهد فمن سلم حاضراً في غائب وسلم الحاضر وأخذ يسعى في طلب الغائب سلم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد وما دام ممسكاً للدنيا لا يصح زهده أصلاً ولذلك لم يصف الله تعالى أخوة يوسف بالزهد في بنيامين وإن كانوا قد قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا وعزموا على إبعاده كما عزموا على يوسف حتى تشفع فيه أحدهم فترك ولا وصفهم أيضاً بالزهد في يوسف عند العزم على إخراجه بل عند التسليم والبيع فعلامة الرغبة والإمساك وعلامة الزهد والإخراج فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط ولست زاهداً مطلقاً وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصور منك الزهد لأن ما لا يقدر عليه لا يقوى على تركه وربما يستهويك الشيطان بغروره ويخيل إليك أن الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهدا فيها فلا ينبغي أن تتدلى بحبل غروره دون أن تستوثق وتستظهر بموثق غليظ من الله فإنك إذا لم تجرب حال القدرة فلا تثق بالقدرة على الترك عندها فكم من ظان بنفسه كراهة المعاصي عند تعذرها فلما تيسرت له أسبابها من غير مكدر ولا خوف من الخلق وقع فيها وإذا كان هذا غرور النفس في المحظورات فإياك أن تثق بوعدها في المباحات والموثق الغليظ الذي تأخذه عليها أن تجربها مرة بعد مرة في حال القدرة فإذا وفت بما وعدت على الدوام مع انتقاء الصوارف والأعذار ظاهراً وباطناً فلا بأس أن تثق بها وثوقاً ما ولكن تكون من تغيرها أيضاً على حذر فإنها سريعة النقض للعهد قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع وبالجملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما ترك فقط وذلك عند القدرة قال ابن أبي ليلى لابن شبرمة ألا ترى إلى ابن الحائك هذا
(١) حديث قال رجل اللهم أرني الدنيا كما تراها فقال له لا تقل هكذا ولكن قل أرني الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك ذكره صاحب الفردوس مختصرا اللهم أرني الدنيا كما تريها صالح عبادك من حديث أبي القصير ولم يخرجه ولده