للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعالى قالت إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة

وكان الفضيل يقول إذا استوى عنده المنع والعطاء فقد رضي عن الله تعالى وقال أحمد بن أبي الحواري قال أبو سليمان الداراني إن الله عز وجل من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم قلت وكيف ذاك قال أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه قلت نعم قال فإن محبة الله من عبيده أن يرضوا عنه

وقال سهل حظ العبيد من اليقين على قدر حظهم من الرضا وحظهم من الرضا على قدر عيشهم مع الله عز وجل وقد قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عز وجل بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين وجعل الغم والحزن في الشك والسخط (١)

[بيان حقيقة الرضا وتصوره فيما يخالف الهوى]

اعلم أن من قال ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضا فلا يتصور فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة فأما إذا ثبت تصور الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب ويكون ذلك من وجهين

{أحدهما} أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها

ومثاله الرجل المحارب فإنه في حال غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه

بل الذي يحجم أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم به فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته فرغ المزين والحجام وهو لا يشعر به

وكل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم له لولا عشقه ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه

هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل وإذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصور في الألم العظيم بالحب العظيم فإن الحب أيضاً يتصور تضاعفه في القوة كما يتصور تضاعف الألم وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال ولا جلال فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحث يدهش ويغشى عليه فلا يحس مما يجري عليه

فقد روي أن امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت فقيل لها أما تجدين الوجع فقالت إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه

وكان سهل رحمه الله تعالى به علة يعالج غيره منها ولا يعالج نفسه فقيل له في ذلك فقال يا دوست ضرب الحبيب لا يوجع

وأما الوجه الثاني فهو أن يحس به ويدرك ألمه ولكن يكون راضياً به بل راغباً فيه مريداً له أعني بعقله وإن كان كارهاً بطبعه كالذي يلتمس من الفصاد الفصد والحجامة فإنه يدرك ألم ذلك إلا انه راض به وراغب فيه ومتقلد من الفصاد به منة بفعله فهذا حال الراضي بما يجري عليه من الألم

وكذلك كل من يسافر في طلب الربح يدرك مشقة السفر ولكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة السفر وجعله راضياً بها

ومهما أصابه بلية من الله تعالى وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به ورغب فيه وأحبه وشكر الله عليه هذا إن كان


(١) حديث إن الله بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا الحديث أخرجه الطبرانى من حديث ابن مسعود إلا أنه قال بقسطه وقد تقدم

<<  <  ج: ص:  >  >>