لمحض الخير فخارج عن حيز الإمكان فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجناً محكماً لا يخلصه إلا إحدى النارين نار الندم أو نار جهنم فالإحراق بالنار ضروري في تخليص جوهر الإنسان من خبائث الشيطان وإليك الآن اختيار أهون النارين والمبادرة إلى أخف الشرين قبل أن يطوى بساط الاختيار ويساق إلى دار الاضطرار إما إلى الجنة وإما إلى النار وإذا كانت التوبة موقعها من الدين هذا الموقع وجب تقديمها في صدر ربع المنجيات بشرح حقيقتها وشروطها وسببها وعلامتها وثمرتها والآفات المانعة منها والأدوية الميسرة لها ويتضح ذلك بذكر أربعة أركان
الركن الأول في نفس التوبة وبيان حدها وحقيقتها وأنها واجبة على الفور وعلى جميع الأشخاص وفي جميع الأحوال وأنها إذا صحت كانت مقبولة
الركن الثاني فيما عنه التوبة وهو الذنوب وبيان انقسامها إلى صغائر وكبائر وما يتعلق بالعباد وما يتعلق بحق الله تعالى وبيان كيفية توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات وبيان الأسباب التي بها تعظم الصغائر
الركن الثالث في بيان شروط التوبة ودوامها وكيفية تدارك ما مضى من المظالم وكيفية
تكفير الذنوب وبيان أقسام التائبين في دوام التوبة الركن الرابع في المسبب الباعث على التوبة وكيفية العلاج في حل عقدة الإصرار من المذنبين
ويتم المقصود بهذه الأركان الأربعة إن شاء الله عز وجل الركن الأول في نفس التوبة بيان حقيقة التوبة وحدها
اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتثم من ثلاثة أمور مرتبة علم وحال وفعل فالعلم الأول والحال الثاني والفعل الثالث وَالْأَوَّلُ مُوجِبٌ لِلثَّانِي وَالثَّانِي مُوجِبٌ لِلثَّالِثِ إِيجَابًا اقتضاه اطراد سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ أَمَّا الْعِلْمُ فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ كُلِّ مَحْبُوبٍ فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً مُحَقَّقَةً بِيَقِينٍ غَالِبٍ عَلَى قَلْبِهِ ثَارَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَأَلُّمٌ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ فَإِنَّ الْقَلْبَ مَهْمَا شَعَرَ بِفَوَاتِ مَحْبُوبِهِ تَأَلَّمَ فَإِنْ كَانَ فَوَاتُهُ بِفِعْلِهِ تَأَسَّفَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُفَوِّتِ فَيُسَمَّى تَأَلُّمُهُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ الْمُفَوِّتِ لِمَحْبُوبِهِ نَدَمًا فَإِذَا غَلَبَ هَذَا الْأَلَمُ على القلب واستولى وانبعث مِنْ هَذَا الْأَلَمِ فِي الْقَلْبِ حَالَةٌ أُخْرَى تُسَمَّى إِرَادَةً وَقَصْدًا إِلَى فِعْلٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بالحال والماضي وَبِالِاسْتِقْبَالِ أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْحَالِ فَبِالتَّرْكِ لِلذَّنْبِ الَّذِي كَانَ مُلَابِسًا وَأَمَّا بِالِاسْتِقْبَالِ فَبِالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ الْمُفَوِّتِ لِلْمَحْبُوبِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ وَأَمَّا بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب فرأى محبوبه وقد أشرف على الهلاك فتشعل نيران الحب في قلبه وتنبعث تلك النيران بإرادته للانتهاض للتدارك فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مرتبة في الحصول فيطلق اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَجْمُوعِهَا وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ التَّوْبَةِ عَلَى مَعْنَى النَّدَمِ وَحْدَهُ وَيُجْعَلُ العلم كالسابق والمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر وبهذا الاعتبار قال صلى الله عليه وسلم الندم توبة
حديث الندم توبة أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود ورواه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح على شرط الشيخين // إذ لا يخلو الندم عن علم