أهل الإيمان بأهل الكفران عين العدل وما لم يخلق الناقص لا يعرف الكامل ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعاً وكما أن قطع اليد إذا تآكلت إبقاء على الروح عدل لأنه فداء كامل بناقص فكذلك الأمر في التفاوت الذي بين الخلق في القسمة في الدنيا والآخرة فكل ذلك عدل لا جور فيه وحق لا لعب فيه وهذا الآن بحر آخر عظيم العمق واسع الأطراف مضطرب الأمواج قريب في السعة من بحر التوحيد فيه غرق طوائف من القاصرين ولم يعلموا أن ذلك غامض لا يعقله إلا العالمون ووراء هذا البحر سر القدر الذي تحير فيه الأكثرون ومنع من إفشاء سره المكاشفون والحاصل أن الخير والشر مقضي به وقد كان ما قضى به واجب الحصول بعد سبق المشيئة فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره بل كل صغير وكبير مستطر وحصوله بقدر معلوم منتظر وما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولنقتصر على هذه المرامز من علوم المكاشفة التي هي أصول مقام التوكل ولنرجع إلى علم المعاملة إن شاء الله تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل
[الشطر الثاني من الكتاب في أحوال التوكل وأعماله]
وفيه
[بيان حال التوكل]
وبيان ما قاله الشيوخ في حد التوكل وبيان التوكل في الكسب للمنفرد والمعيل وبيان التوكل بقدر الادخار وبيان التوكل في دفع المضار وبيان التوكل في إزالة الضرر بالتداوي وغيره والله الموفق برحمته
[بيان حال التوكل]
قد ذكرنا أن مقام التوكل ينتظم من علم وحال وعمل وذكرنا العلم
فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه وإنما العلم أصله والعمل ثمرته وقد أكثر الخائضون في بيان حد التوكل واختلفت عباراتهم وتكلم كل واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حده كما جرت عادة أهل التصوف به ولا فائدة في النقل والإكثار فلنكشف الغطاء عنه ونقول التوكل مشتق من الوكالة يقال وكَّل أمره إلى فلان أي فوضه إليه واعتمد عليه فيه ويسمى الموكول إليه وكيلاً ويسمى المفوض إليه متكلاً عليه ومتوكلاً عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده ولنضرب للوكيل في الخصومة مثلاً فنقول من ادعى عليه دعوى باطلة بتلبيس فوكل للخصومة من يكشف ذلك التلبيس لم يكن متوكلاً عليه ولا واثقاً به ولا مطمئن النفس بتوكيله إلا إذا اعتقد فيه أربعة أمور منتهى الهداية ومنتهى القوة ومنتهى الفصاحة ومنتهى الشفقة أما الهداية فليعرف بها مواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء أصلاً وأما القدرة والقوة فليستجرئ على التصريح بالحق فلا يداهن ولا يخاف ولا يستحي ولا يجبن فإنه ربما يطلع على وجه تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به وأما الفصاحة فهي أيضاً من القدرة إلا أنها قدرة في اللسان على الإفصاح عن كل ما استجرأ القلب عليه وأشار إليه فلا كل عالم بمواقع التلبيس قادر بذلاقة لسانه على حل عقدة التلبيس وأما منتهى الشفقة فيكون باعثاً له على بذل كل ما يقدر