الخامسة أن يكون ما فقده من المال مضطراً إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب ويسمى صاحب هذه الحالة مضطراً كيفما كانت رغبته في الطلب إما ضعيفة وإما قوية وقلما تنفك هذه الحالة عن الرغبة فهذه خمسة أحوال أعلاها الزهد والاضطرار إن انضم إليه الزهد وتصور ذلك فهو أقصى درجات الزهد كما سيأتي بيانه ووراء هذه الأحوال الخمسة حالة هي أعلى من الزهد وهي أن يستوي عنده وجود المال وفقده فإن وجده لم يفرح به ولم يتأذ وإن فقده فكذلك بل حاله كما كان حال عائشة رضي الله تعالى عنها إذا أتاها مائة ألف درهم من العطاء فأخذتها وفرقتها من يومها فقالت خادمتها ما استطعت فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه فقالت لو ذكرتيني لفعلت فمن هذا حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده وخزائنه لم تضره إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى لا في يد نفسه فلا يفرق بين أن تكون في يده أو في يده غيره وينبغي أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغني لأنه غني عن فقد المال ووجوده جميعاً وليفهم من هذا الاسم معنى يفارق اسم الغني المطلق على الله تعالى وعلى كل من كثر ماله من العباد فإن من كثر ماله من العباد وهو يفرح به فهو فقير إلى بقاء المال في يده وإنما هو هو غني عن دخول المال في يده لا عن بقائه فهو إذن فقير من وجه وأما هذا الشخص فهو غني عن دخول المال في يده وعن بقائه في يده وعن خروجه من يده أيضاً فإنه ليس يتأذن به ليحتاج إلى إخراجه وليس يفرح به ليحتاج إلى بقائه
وليس فاقد له ليحتاج إلى الدخول في يديه فغناه إلى العموم أميل فهو إلى الغنى الذي هو وصف الله تعالى أقرب وإنما قرب العبد من الله تعالى بقرب الصفات لا بقرب المكان ولكنا لا نسمي صاحب هذه الحالة غنياً بل مستغنياً ليبقى الغني اسماً لمن له الغنى المطلق عن كل شيء
وأما هذا العبد فإن استغنى عن المال وجوداً أو عدماً فلم يستغن عن أشياء أخر سواء ولم يستغن عن مدد توفيق الله له ليبقى استغناؤه والذي زين الله به قلبه فإن القلب المقيد بحب المال رقيق والمستغني عنه حر والله تعالى هو الذي من هذا الرق فهو محتاج إلى داوم هذا العتق والقلوب متعلقة بين الرق والحربة في أوقات متقاربة لأنها بين إصبعين من أصابع الرحمن فلذلك لم يكن اسم الغني مطلقاً عليه مع هذا الكمال إلا مجازاً
واعلم أن الزهد درجة هي كمال الأبرار وصاحب هذه الحالة من المقربين فلا جرم صار الزهد في حقه نقصاناً إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وهذا لأن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا كما أن الراغب فيها مشغول بها والشغل بما سوى الله تعالى حجاب عن الله تعالى إذ لا بعد بينك وبين الله تعالى حتى يكون البعد حجاباً فإنه أقرب إليك من حبل الوريد وليس هو في مكان حتى تكون السماوات والأرض حجاباً بينك وبينه فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره وشغلك نفسك وشهواتك شغل بغيره وأنت لا تزال مشغولاً بنفسك وبشهوات نفسك فكذلك لا تزال محجوباً عنه فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله تعالى والمشغول ببغض نفسه أيضاً مشغول عن الله تعالى بكل ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه فكذا النظر إلى غير المحبوب لبغضه شرك فيه ونقص ولكن أحدهما أخف من الآخر بل الكمال في أن لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضاً وحباً فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان