كرم الله وجهه الله جل ذكره في حالة واحدة فلا يجتمع أيضاً بغض وحب في حالة واحدة فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله كالمشغول بحبها إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد والمشغول ببغضها غافل وهو في غفلته سالك في طريق القرب إذ يرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه الغفلة وتتبدل بالشهود فالكمال مرتقب لأن بغض الدنيا مطية توصل إلى الله فالمحب والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة علفها وتسييرها ولكن أحدهما مستقبل الكعبة والآخر مستدبر لها فهما سيان بالإضافة إلى الحال في أن كل واحد منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها ولكن حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر إذ يرجى له الوصول إليها وليس محموداً بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة الملازم لها الذي لا يخرج منها حتى يفتقر إلى الاشتغال بالدابة في الوصول إليها فلا ينبغي أن تظن أن بغض الدنيا مقصود في عينه بل الدنيا عائق عن الله تعالى ولا وصول إليه إلا بدفع العائق ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله من زهد في الدنيا واقتصر عليه فقد استعجل الراحة بل ينبغي أن يشتغل بالآخرة فبين أن سلوك طريق الآخرة وراء الزهد كما أن سلوك طريق الحج وراء دفع الغريم العائق عن الحج فإذن قد ظهر أن الزهد في الدنيا إن أريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال وإن أريد به الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص ونقصان بالإضافة إلى درجة المستغني بل الكمال في حق المال أن يستوي عندك المال والماء وكثرة الماء في جوارك لا تؤذيك بأن تكون على شاطئ البحر ولا قلته تؤذيك إلا في قدر الضرورة مع أن المال محتاج إليه كما أن الماء محتاج إليه فلا يكون قلبك مشغولاً بالفرار عن جوار الماء الكثير ولا ببغض الماء الكثير بل تقول أشرب منه بقدر الحاجة وأسقي منه عباد الله بقدر الحاجة ولا أبخل به على أحد فهكذا ينبغي أن يكون المال لأن الخبز والماء واحد في الحاجة وإنما الفرق بينهما في قلة أحدهما وكثرة الآخر وإذا عرفت الله تعالى ووثقت بتدبيره الذي دبر به العالم علمت أن قدر حاجتك من الخبز يأتيك لا محالة ما دمت حياً كما يأتيك قدر حاجتك من الماء على ما سيأتي بيانه في كتاب التوكل إن شاء الله تعالى
قال أحمد بن أبي الحواري قلت لأبي سليمان الداراني قال مالك بن دينار للمغيرة اذهب إلى البيت فخذ الركوة التي أهديتها لي فإن العدو يوسوس لي أن اللص قد أخذها قال أبو سليمان هذا من ضعف قلوب الصوفية قد زاده في الدنيا ما غلبه من أخذها فبين أن كراهية كون الركوة في بيته التفات إليها سببه الضعف والنقصان
فإن قلت فما بال الأنبياء والأولياء هربوا من المال ونفروا منه كل النفار فأقول كما هربوا من الماء على معنى أنهم ما شربوا أكثر من حاجتهم ففروا عما وراءه ولم يجمعوه في القرب والروايا يدبرونه مع أنفسهم بل تركوه في الأنهار والآبار والبراري للمحتاجين إليه لا أنهم كانت قلوبهم مشغولة بحبه أبو بغضه وقد حملت خزائن الأرض إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأخذوها ووضعوها في مواضعاً وما هربوا منها (١)
إذ كان يستوي عندهم المال والماء والذهب والحجر وما نقل عنهم من امتناع فإما أن ينقل عمن خاف
(١) حديث إن خزائن الأرض حملت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى أبي بكر وعمر فأخذوها ووضعوها في مواضعها هذا معروف وقد تقدم في أداب المعيشة من عند البخاري تعليقا مجزوما به من حديث أنس أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين وكان أكثر مال أتى به فخرج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إله فقلما كان يرى أحد إلا أعطاه ووصله عمر بن محمد البحيري في صحيحه من هذا الوجه وفي الصحيحين من حديث عمرو ابن عوف قدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدومه الحديث ولهما من حديث جابر لو جاءنا مال البحرين أعطيتك هكذا ثلاثا فلم يقدم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أبو بكر منادياً فنادى من كان له عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدة أو دين فليأتنا فقلت أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدني فحثا لي ثلاثا