فإن قلت: فلم نهى عن الخروج من البلد الذي فيه الوباء وسبب الوباء في الطب الهواء وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر والهواء هو المضر وترك التوكل في أمثال هذا مباح وهذا لا يدل على المقصود ولكن الذي ينقدح فيه والعلم عند الله تعالى أن الهواء لا يضر من حيث إنه يلاقي ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق له فإنه إذا كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاق فلا يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في الباطن فالخروج من البلد لا يخلص غالباً من الأثر الذي استحكم من قبل ولكن يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقي والطيرة وغيرهما ولو تجرد هذا المعنى لكان مناقضاً للتوكل ولم يكن منهياً عنه ولكن صار منهياً عنه لأنه انضاف إليه أمر آخر وهو أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون فانكسرت قلوبهم وفقدوا المتعهدين ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهما بأنفسهم فيكون ذلك سعياً في إهلاكهم تحقيقاً وخلاصهم منتظر كما أن خلاص الأصحاء منتظر فلو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعاً بالخلاص وهو قاطع في إهلاك الباقين والمسلمون كالبنيان يشد بعضه بعضا والمؤمنون كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى اليه سائر أعضائه فهذا هو الذي ينقدح عندنا في تعليل النهي وينعكس هذا فيمن لم يقدم بعد على البلد فانه لم يؤثر الهواء في باطنهم ولا بأهل البلد حاجة إليهم نعم لو لم يبق بالبلد إلا مطعونون وافتقروا إلى المتعهدين وقدم عليهم قوم فربما كان ينقدح استحباب الدخول ههنا لأجل الإعانة ولا ينهى عن الدخول لأنه تعرض لضرر موهوم على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين وبهذا شبه الفرار من الطاعون في بعض الأخبار بالفرار من الزحف (٢) حديث عبد الرحمن بن عوف اذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه الحديث وفي أوله قصة خروج عمر بالناس إلى الجابية وأنه بلغهم أن بالشام وباء الحديث رواه البخاري