ملبس ومسكن ومطعم
ولكل واحد ثلاث درجات أدنى وأوسط وأعلى
وما دام مائلاً إلى جانب القلة ومتقرباً من حد الضرورة كان محقاً ويجيء من جملة المحقين وإن جاوز ذلك وقع في هاوية لا آخر لعمقها
وقد ذكرنا تفصيل هذه الدرجات في كتاب الزهد
الرابعة أن يراعي جهة المخرج ويقتصد في الإنفاق غير مبذر ولا مقتر كما ذكرناه فيضع ما اكتسبه من حله في حقه ولا يضعه في غير حقه فإن الإثم في الأخذ من غير حقه والوضع في غير حقه سواء
الخامسة أن يصلح نيته في الأخذ والترك والإنفاق والإمساك فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له إذا فعل ذلك لم يضره وجود المال ولذلك قال علي رضي الله عنه لو أن رجلاً أخذ جميع ما في الأرض وأراد به وجه الله تعالى فهو زاهد ولو أنه ترك الجميع ولم يرد به وجه الله تعالى فليس بزاهد
فلتكن جميع حركاتك وسكناتك لله مقصورة على عبادة أو ما يعين على العبادة فإن أبعد الحركات عن العبادة الأكل وقضاء الحاجة وهما معينان على العبادة فإذا كان ذلك قصدك بهما صار ذلك عبادة في حقك
وكذلك ينبغي أن تكون نيتك في كل ما يحفظك من قميص وإزار وفراش وآنية لأن كل ذلك مما يحتاج إليه في الدين وما فضل من الحاجة ينبغي أن يقصد به أن ينتفع به عبد من عباد الله ولا يمنعه منه عند حاجته فمن فعل ذلك فهو الذي أخذ من حية المال جوهرها وترياقها واتقى سمها فلا تضره كثرة المال ولكن لا يتأتى ذلك إلا لمن رسخ في الدين قدمه وعظم فيه علمه
والعامي إذا تشبه بالعالم في الاستكثار من المال وزعم أنه يشبه أغنياء الصحابة شابه الصبي الذي يرى المعزم الحاذق يأخذ الحية ويتصرف فيها فيخرج ترياقها فيقتدي به ويظن أنه أخذها مستحسناً صورتها وشكلها ومستليناً جلدها فيأخذها اقتداء به فتقتله في الحال إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل وقتيل المال قد لا يعرف
وقد شبهت الدنيا بالحية فقيل
هي دنيا كحية تنفث السم ... وإن كانت المجسة لانت
وكما يستحيل أن يتشبه الأعمى بالبصير في تخطي قلل الجبال وأطراف البحر والطرق المشوكة فمحال أن يتشبه العامي بالعالم الكامل في تناول المال
بيان ذم الغنى ومدح الفقر
اعلم أن الناس قد اختلفوا في تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر وقد أوردنا ذلك في كتاب الفقر والزهد وكشفنا عن تحقيق الحق فيه ولكنا في هذا الكتاب ندل على أن الفقر أفضل وأعلى من الغني على الجملة من غير التفات إلى تفصيل الأحوال ونقتصر فيه على حكاية فصل ذكره الحارث المحاسبي رضي الله عنه في بعض كتبه في الرد على بعض العلماء من الأغنياء حيث احتج بأغنياء الصحابة وبكثرة مال عبد الرحمن بن عوف وشبه نفسه بهم والمحاسبي رحمه الله حبر الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه
وقد قال بعد كلام له في الرد على علماء السوء بلغنا أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال يا علماء السوء تصومون وتصلون وتصدقون ولا تفعلون ما تؤمرون وتدرسون مالا تعملون فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى وما يغني عنكم أن تنقو جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة كذلك أنتم