للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُحْتَاجًا إِلَيْهِ وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ

وَالثَّانِي أَنْ يَطْلُبَ إِخْفَاءَ عَيْبٍ مِنْ عُيُوبِهِ وَمَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِيهِ حَتَّى لَا يُعْلَمَ فَلَا تَزُولُ مَنْزِلَتُهُ بِهِ فَهَذَا أَيْضًا مُبَاحٌ لِأَنَّ حِفْظَ السَّتْرِ عَلَى الْقَبَائِحِ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ هَتْكُ السَّتْرِ وإظهار القبيح

وهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به كالذي يخفي عن السلطان أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَلَا يُلْقِي إِلَيْهِ أَنَّهُ وَرِعٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ إِنِّي وَرِعٌ تَلْبِيسٌ وَعَدَمُ إِقْرَارِهِ بِالشُّرْبِ لَا يُوجِبُ اعْتِقَادَ الْوَرَعِ بَلْ يَمْنَعُ الْعِلْمَ بِالشُّرْبِ

وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحْظُورَاتِ تَحْسِينُ الصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَحْسُنَ فِيهِ اعْتِقَادُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ رِيَاءٌ وَهُوَ مُلْبِسٌ إِذْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الْخَاشِعِينَ لِلَّهِ وَهُوَ مُرَاءٍ بِمَا يَفْعَلُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مُخْلِصًا فَطَلَبُ الْجَاهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ حَرَامٌ وَكَذَا بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ وَذَلِكَ يجري مجرى اكتساب المال الحرام مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ غَيْرِهِ بِتَلْبِيسٍ فِي عِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ قَلْبَهُ بِتَزْوِيرٍ وَخِدَاعٍ فَإِنَّ مِلْكَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ من ملك الأموال

بيان السبب في حب المدح والثناء وارتياح النفس به وميل الطبع إليه وبغضها

للذم ونفرتها منه

اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب

السبب الأول وهو الأقوى شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب وكل محبوب فإدراكه لذيذ

فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جلياً ظاهراً أو يكون مشكوكاً فيه فإن كان جلياً ظاهراً محسوساً كانت اللذة به أقل ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل القامة أبيض اللون فإن هذا نوع كمال ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك فاللذة فيه أعظم كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق فإن الإنسان ربما يكون شاكاً في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقاً إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقناً لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه فإذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات خبير بها لا يجازف في القول إلا عن تحقيق ذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيراً بذلك الوصف ضعفت اللذة وبهذه العلة يبغض الذم أيضاً ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه والنقصان ضد الكمال المحبوب فهو ممقوت الشعور به مؤلم ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به كما ذكرناه في المدح

السَّبَبُ الثَّانِي أَنَّ الْمَدْحَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَلْبَ الْمَادِحِ مَمْلُوكٌ لِلْمَمْدُوحِ وَأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ وَمُعْتَقِدٌ فِيهِ وَمُسَخَّرٌ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَمِلْكُ الْقُلُوبِ محبوب والشعور بحصوله لذيذ وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة وبهذه العلة أيضاً يكره الذم ويتألم به القلب وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم

السبب الثَّالِثُ أَنَّ ثَنَاءَ الْمُثْنِي وَمَدْحَ الْمَادِحِ سَبَبٌ لِاصْطِيَادِ قَلْبِ كُلِّ مَنْ يَسْمَعُهُ لَا سِيَّمَا إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>