للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العالم أن يتعزز بعزة العلم يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويستجهلهم ويتوقع أن يبدءوه بالسلام فإن بدأه واحد منهم بالسلام أو رد عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة رأى ذلك صنيعة عنده ويداً عليه يلزمه شكرها واعتقد أنه أكرمهم وفعل بهم ما لا يستحقون من مثله وأنه ينبغي أن يرقوا له ويخدموه شكراً له على صنيعه بل الغالب أنهم يبرونه فلا يبرهم ويزورونه فلا يزورهم ويعودونه فلا يعودهم ويستخدم من خالطه منهم ويستسخره في حوائجه فإن قصر فيه استنكره كأنهم عبيده أو أجراؤه وكأن تعليمه العلم صنيعة منه إليهم ومعروفلديهم واستحقاق حق عليهم هذا فيما يتعلق بالدنيا

أما في أمر الآخرة فتكبره عليهم بأن يَرَى نَفْسَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَى وَأَفْضَلَ مِنْهُمْ فَيَخَافُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجُو لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو لَهُمْ وهذا بأن يسمى جاهلاً أولى من أن يسمى عالماً بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه وخطر الخاتمة وحجة الله على العلماء وعظم خطر العلم فيه كما سيأتي في طريق معالجة الكبر بالعلم وهذا العلم يزيد خوفاً وتواضعاً وتخشعاً ويقتضي أن يرى كل الناس خيراً منه لعظم حجة الله عليه بالعلم وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم

ولهذا قال أبو الدرداء من ازداد علماً ازداد وجعاً وهو كما قال

فإن قلت فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبراً وأمناً

فاعلم أن لذلك سببين

أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِمَا يُسَمَّى عِلْمًا وليس علماً حقيقياً وإنما الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَنَفْسَهُ وَخَطَرَ أَمْرِهِ فِي لِقَاءِ اللَّهِ وَالْحِجَابِ مِنْهُ وَهَذَا يُورِثُ الْخَشْيَةَ وَالتَّوَاضُعَ دُونَ الْكِبْرِ والأمن

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عباده العلماء فأما ما وراء ذلك كعلم الطب والحساب واللغة والشعر والنحو وفصل الخصومات وطرق المجادلات فإذا تجرد الإنسان لها حتى امتلأ منها امتلأ بها كبراً ونفاقاً وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوماً بل العلم هو معرفة العبودية والربوبية وطريق العبادة وهذه تورث التواضع غالباً

السبب الثاني أن يخوض العبد فِي الْعِلْمِ وَهُوَ خَبِيثُ الدُّخْلَةِ رَدِيءُ النَّفْسِ سيء الْأَخْلَاقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ أَوَّلًا بِتَهْذِيبِ نَفْسِهِ وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات ولم يرض نفسه في عبادة ربه فَبَقِيَ خَبِيثَ الْجَوْهَرِ فَإِذَا خَاضَ فِي الْعِلْمِ أي علم كان صَادَفَ الْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ مَنْزِلًا خَبِيثًا فَلَمْ يَطِبْ ثَمَرُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْخَيْرِ أَثَرُهُ

وَقَدْ ضَرَبَ وهب لِهَذَا مَثَلًا فَقَالَ الْعِلْمُ كَالْغَيْثِ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ حُلْوًا صَافِيًا فَتَشْرَبُهُ الْأَشْجَارُ بِعُرُوقِهَا فَتُحَوِّلُهُ عَلَى قَدْرِ طَعُومِهَا فَيَزْدَادُ المر مرارة والحلو حلاوة فكذلك العلم تحفظه الرِّجَالُ فَتُحَوِّلُهُ عَلَى قَدْرِ هِمَمِهَا وَأَهْوَائِهَا فَيَزِيدُ الْمُتَكَبِّرَ كِبْرًا وَالْمُتَوَاضِعَ تَوَاضُعًا وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ كانت همته الكبر وهو جَاهِلٌ فَإِذَا حَفِظَ الْعِلْمَ وَجَدَ مَا يَتَكَبَّرُ بِهِ فَازْدَادَ كِبْرًا وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ خَائِفًا مع جهله فَازْدَادَ عِلْمًا عَلِمَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَأَكَّدَتْ عليه فيزداد خوفاً وإشفاقاً وذلاً وتواضعاً فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال عز وجل وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حولك ووصف أولياءه فقال أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وكذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه العباس رضي الله عنه يكون قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا ومن أعلم منا ثم التفت إلى أصحابه وقال أولئك منكم أيها الأمة أولئك هم

<<  <  ج: ص:  >  >>