وفي ربحه على شك والمتفقه في جهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك والصياد في تردده في المقتنص على يقين وفي الظفر بالصيد على شك وكذا الحزم دأب العقلاء بالاتفاق وكل ذلك ترك اليقين بالشك ولكن التاجر يقول إن لم أتجر بقيت جائعاً وعظم ضرري وإن اتجرت كان تعبي قليلاً وربحي كثيراً وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه وهو من الشفاء على شك ومن مرارة الدواء على يقين ولكن يقول ضرر مرارة الدواء قليل بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت فكذلك من شك في الآخرة فواجب عليه بحكم الحزم أن يقول أيام الصبر قلائل وهو منتهى العمر بالإضافة إلى ما يقال من أمر الآخرة فإن كان ما قيل فيه كذباً فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي وقد كنت في العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم فأحسب أني بقيت في العدم
وإن كان ما قيل صدقاً فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق
ولهذا قال علي كرم الله وجهه لبعض الملحدين إن كان ما قلته حقا فقد تخلصت وتخلصنا وإن كان ما قلناه حقاً فقد تخلصنا وهلكت وما قال هذا عن شك منه في الآخرة ولكن كلم الملحد على قدر عقله وبين له أنه وإن لم يكن متيقناً فهو مغرور
وأما الأصل الثاني من كلامه وهو أن الآخرة شك فهو أيضاً خطأ بل ذلك يقين عند المؤمنين وليقينه مدركان
وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِيمَانِ كَافٍ لِجُمْلَةِ الْخَلْقِ وَهُوَ يَقِينٌ جَازِمٌ يَسْتَحِثُّ عَلَى الْعَمَلِ لا محالة والغرور يزول به
وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء ولا تظنن أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الآخرة ولأمور الدين تقليد لجبريل عليه السلام بالسماع منه كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون معرفتك مثل معرفته وإنما يختلف المقلد فقط وهيهات فإن التقليد ليس بمعرفة بل هو اعتقاد صحيح والأنبياء عارفون ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها فشاهدوها بالبصيرة الباطنة كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر فيخبرون عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد
وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح وأنه من أمر الله تعالى وليس المراد بكونه من أمر الله الأمر الذي يقابل النهي لأن ذلك الأمر كلام والروح ليس بكلام وليس المراد بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط لأن ذلك عام في جميع المخلوقات