فهو يظهر الدعاء إلى الله وهو منه فار ويخوف بالله تعالى وهو منه آمن
ويذكر بالله تعالى وهو له ناس ويقرب إلى الله وهو منه متباعد ويحث على الإخلاص وهو غير مخلص ويذم الصفات المذمومة وهو بها متصف ويصرف الناس عن الخلق وهو على الخلق أشد حرصاً لو منع عن مجلسه الذي يدعو الناس فيه إلى الله لضاقت عليه الأرض بما رحبت ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق ولو ظهر من أقرانه من أقبل الخلق عليه وصلحوا على يديه لمات غماً وحسداً ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله إليه
فهؤلاء أعظم الناس غرة وأبعدهم عن التنبه والرجوع إلى السداد لأن المرغب في الأخلاق المحمودة والمنفر عن المذمومة هو العلم بغوائلها وفوائدها وهذا قد علم ذلك ولم ينفعه وشغله حب دعوة الخلق عن العمل به
فبعد ذلك بماذا يعالج وكيف سبيل تخويفه وإنما المخوف ما يتلوه على عباد الله فيخافون وهو ليس بخائف نعم إن ظن نفسه أنه موصوف بهذه الصفات المحمودة يمكن أن يدل على طريق الامتحان والتجربة وهو أن يدعي مثلاً حب الله فما الذي تركه من محاب نفسه لأجله ويدعي الخوف فما الذي امتنع منه بالخوف ويدعي الزهد فما الذي تركه مع القدرة عليه لوجه الله تعالى ويدعى الأنس بالله فمتى طابت له الخلوة ومتى استوحش من مشاهدة الخلق لا بل يرى قلبه يمتلئ بالحلاوة إذا أحدق به المريدون وتراه يستوحش إذا خلا بالله تعالى فهل رأيت محباً يستوحش من محبوبه ويستروح منه إلى غيره فالأكياس يمتحنون أنفسهم بهذه الصفات ويطالبونها بالحقيقة ولا يقنعون منها بالتزويق بل بموثق من الله غليظ والمغترون يحسنون بأنفسهم الظنون وإذا كشف الغطاء عنهم في الآخرة يفتضحون بل يطرحون في النار فتندلق أقتابهم فيدور بها أحدهم كما يدور الحمار بالرحى كما ورد به الخبر لأنهم يأمرون بالخير ولا يأتونه وينهون عن الشر ويأتونه وإنما وقع الغرور لهؤلاء من حيث إنهم يصادفون في قلوبهم شيئاً ضعيفاً من أصول هذه المعانيوهو حب الله والخوف منه والرضا بفعله ثم قدروا مع ذلك على وصف المنازل العالية في هذه المعاني فظنوا أنهم ما قدروا على وصف ذلك وما رزقهم الله علمه وما نفع الناس بكلامهم فيها إلا لاتصفاهم بها وذهب عليهم أن القبول للكلام والكلام للمعرفة وجريان اللسان والمعرفة للعلم وأن كل ذلك غير الاتصاف بالصفة فلم يفارق آحاد المسلمين في الاتصاف بصفة الحب والخوف بل في القدرة على الوصف بل ربما زاد أمنه وقل خوفه وظهر إلى الخلق ميله وضعف في قلبه حب الله تعالى وإنما مثاله مثال مريض يصف المرض ويصف دواءه بفصاحته ويصف الصحة والشفاء وغيره من المرضى لا يقدر على وصف الصحة والشفاء وأسبابه ودرجاته وأصنافه فهو لا يفارقهم في صفة المرض والاتصاف به وإنما يفارقهم في الوصف والعلم بالطب فظنه عند علمه بحقيقة الصحة أنه صحيح غاية الجهل فكذلك العلم بالخوف والحب والتوكل والزهد وسائر هذه الصفات غير الاتصاف بحقائقها
ومن التبس عليه وصف الحقائق بالاتصاف بالحقائق فهو مغرور
فهذه حالة الوعاظ الذين لا عيب في كلامهم بل منهاج وعظهم منهاج وعظ القرآن والأخبار ووعظ الحسن البصري وأمثاله رحمة الله عليهم
وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهاج الواجب في الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إلا من عصمه الله على الندور في بعض أطراف البلاد إن كان ولسنا نعرفه فاشتغلوا بالطامات والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلباً للإغراب
وطائفة شغفوا بطيارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها فأكثر هممهم بالأسجاع والاستشهاد بأشعار الوصال والفراق وغرضهم أن تكثر في مجالستهم الزعقات والتواجد ولو على أغراض فاسدة فهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل فإن الأولين وإن لم يصلحوا أنفسهم فقد