بالوفاء بالوعد معصية وإن كان هو طاعة في نفسه
وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك فالنجاسة محذورة وإيذاؤهما محذور والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة
وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر
ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور
وهذا غرور في غاية الغموض لأن المغرور فيه في طاعة إلا أنه لا يفطن لصيرورة الطاعة معصية حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها
ومن جملته الاشتغال بالمذهب والخلاف من الفقه في حق من بقي عليه شغل من الطاعات والمعاصي الظاهرة والباطنة المتعلقة بالجوارح والمتعلقة بالقلب لأن مقصود الفقه معرفة ما يحتاج إليه غيره في حوائجه
فمعرفة ما يحتاج هو إليه في قلبه أولى به إلا أن حب الرياسة والجاه ولذة المباهاة وقهر الأقران والتقدم عليهم يعمي عليه حتى يغتر به مع نفسه ويظن أنه مشغول بهم دينه
الصنف الثالث المتصوفة وما أغلب الغرور عليهم والمغترون منهم فرق كثيرة
ففرقة منهم وهم متصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله اغتروا بالزي والهيئة والمنطق فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم وفي آدابهم ومراسمهم واصطلاحاتهم وفي أحوالهم الظاهرة في السماع والرقص والطهارة والصلاة والجلوس عَلَى السَّجَّادَاتِ مَعَ إِطْرَاقِ الرَّأْسِ وَإِدْخَالِهِ فِي الْجَيْبِ كَالْمُتَفَكِّرِ وَفِي تَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ وَفِي خَفْضِ الصوت في الحديث إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا بهم فيها ظنوا أنهم أيضاً صوفية وَلَمْ يُتْعِبُوا أَنْفُسَهُمْ قَطُّ فِي الْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَمُرَاقَبَةِ الْقَلْبِ وَتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مِنَ الْآثَامِ الْخَفِيَّةِ وَالْجَلِيَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ مَنَازِلِ التصوف ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية كيف ولم يَحُومُوا قَطُّ حَوْلَهَا وَلَمْ يَسُومُوا أَنْفُسَهُمْ شَيْئًا منها بل يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة ويتحاسدون على النقير والقطمير ويمزق بضعهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه
وهؤلاء غرورهم ظاهر ومثالهم مثال امرأة عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من المقاتلين ثبت أسماؤهم في الديوان ويقطع لكل واحد منهم قطر من أقطار المملكة فتاقت نفسها إلى أن يقطع لها مملكة فلبست درعاً ووضعت على رأسها مغفراً وتعلمت من رجز الأبطال أبياتاً وتعودت إيراد تلك الأبيات بنغماتهم حتى تيسرت عليها وتعلمت كيفية تبخترهم في الميدان وكيف تحريلم بالأيدي وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق والحركات والسكنات ثم توجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشجعان فلما وصلت إلى المعسكر أنفذت إلى ديوان العرض وأمر بأن تجرد عن المغفر والدرع وينظر ما تحته وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر عنائها في الشجاعة فلما جردت عن المغفر والدرع فإذا هي عجوز ضعيفة زمنة لا تطيق حمل الدرع والمغفر فقيل لها أجئت للاستهزاء بالملك وللاستخفاف بأهل حضرته والتلبيس عليهم خذوها فألقوها قدام الفيل لسخفها فألقيت إلى الفيل
فكهذا يكون حال المدعين للتصوف في القيامة إذا كشف عنهم الغطاء وعرضوا على القاضي إلا كبر الذي لا ينظر إلى الزي والمرقع بل إلى القلب
وفرقة أخرى زادت على هؤلاء في الغرور إذ شق عليها الاقتداء بهم في بذاذة الثياب والرضا بالدون فأرادت أن تتظاهر بالتصوف ولم تجد بداً من التزين بزيهم فتركوا الحرير والإبريسم وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرقيقة والسجادات المصبغة ولبسوا من الثياب ما هو أرفع من الحرير والإبريسم وظن أحدهم مع ذلك أنه متصوف بمجرد لون الثوب وكونه مرقعاً ونسي أنهم إنما لونوا الثياب لئلا يطول عليهم غسلها كل ساعة