للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتعرضه له فالاستحلال المبهم لا يكفي وربما لو عرف ذلك وكثرة تعديه عليه لم تطب نفسه بالإحلال وادخر ذلك في القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته أو يحمله من سيئاته فإن كان في جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو أهله أو نسبته باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه يعظم آذاه مهما شوفه به فقد انسد عليه طريق الاستحلال فليس له إلا أن يستحل منها ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب

وأما الذكر والتعريف فهو سيئة جديدة يجب الاستحلال منها ومهما ذكر جنايته وعرفه المجني عليه فلم تسمح نفسه بالاستحلال بقيت المظلمة عليه فإن هذا حقه فعليه أن يتلطف به ويسعى في مهماته وأغراضه ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل به قلبه فإن الإنسان عبد الإحسان وكل من نفر بسيئة مال بحسنة فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال فإن أبى إلا الإصرار فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من جملة حسناته التي يمكن أن يجبر بها في القيامة جنايته وليكن قدر سعيه في فرحه وسرور قلبه بتودده وتلطفه كقدر سعيه في أذاه حتى إذا قاوم أحدهما الآخر أو زاد عليه أخذ ذلك منه عوضاً في القيامة بحكم الله به عليه كمن أتلف في الدنيا ما لا فجاء بمثله فامتنع من له المال من القبول وعن الإبراء فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه شاء أم أبى فكذلك يحكم في صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين وفي المتفق عليه من الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة قال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال له إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى الأرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله عز وجل فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجوده أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة (١) وفي رواية فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها وفي رواية فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له فبهذا تعرف أنه لاخلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ولو بمثقال ذرة فلا بد للتائب من تكثير الحسنات هذا حكم القصد المتعلق بالماضي

وأما العزم المرتبط بالاستقبال فهو أن يعقد مع الله عقداً مؤكداً ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها كالذي يعلم في مرضه أن الفاكهة تضره مثلاً فيعزم عزماً جزماً أنه لا يتناول الفاكهة ما لم يزل مرضه فإن هذا العزم يتأكد في الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال ولكن لا يكون تائباً ما لم يتأكد عزمه في الحال ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول أمره إلا بالعزلة والصمت وقلة الأكل والنوم وإحراز قوت حلال فإن كان له مال موروث حلال أو كانت له حرفة يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر عليه


(١) حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين فسأل عن أعلم أهل الأرض الحديث هو متفق عليه كما قال المصنف من حديث أبى سعيد

<<  <  ج: ص:  >  >>