للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من باطنه تأكيد الرحمة وتضاعفها بسبب العمل وكذلك معتقد التواضع إذا عمل بموجبه عملاً مقبلاً أو ساجداً لغيره أحس من قلبه بالتواضع عند إقدامه على الخدمة

وهكذا جميع صفات القلب تصدر منها أعمال الجوارح ثم يعود أثر الأعمال عليها فيؤكدها ويزيدها وسيأتي هذا في ربع المنجيات والمهلكات عند بيان وجه تعلق الباطن بالظاهر والأعمال بالعقائد والقلوب فإن ذلك من جنس تعلق الملك بالملكوت وأعني بالملك عالم الشهادة المدرك بالحواس وبالملكوت عالم الغيب المدرك بنور البصيرة والقلب من عالم الملكوت والأعضاء وأعمالها من عالم الملك

ولطف الارتباط ودقته بين العالمين انتهى إلى حد ظن بعض الناس اتحاد أحدهما بالآخر وظن آخرون أنه لا عالم إلا عالم الشهادة وهو هذه الأجسام المحسوسة

ومن أدرك الأمرين وأدرك تعددهما ثم ارتباطهما عبر عنه فقال

رق الزجاج ورقت الخمر ... وتشابها فتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر

ولنرجع إلى المقصود فإن هذا العلم خارج عن علم المعاملة ولكن بين العلمين أيضاً اتصال وارتباط فلذلك ترى علوم المكاشفة تتسلق كل ساعة على علوم المعاملة إلى أن تنكشف عنها بالتكليف فهذا وجه زيادة الإيمان بالطاعة بموجب هذا الإطلاق ولهذا قال علي كرم الله وجهه إن الإيمان ليبدو لمعة بيضاء فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيض القلب كله وإن النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهك الحرمات نمت وزادت حتى يسود القلب كله فيطبع عليه فذلك هو الختم وتلا قوله تعالى كلا بل ران على قلوبهم الآية

الإطلاق الثاني أن يراد به التصديق والعمل جميعاً كما قال صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون باباً (١) وقال صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وإذا دخل العمل في مقتضى لفظ الإيمان لم تخف زيادته ونقصانه وهل يؤثر ذلك في زيادة الإيمان الذي هو مجرد التصديق هذا فيه نظر وقد أشرنا إلى أنه يؤثر فيه

الإطلاق الثالث أن يراد به التصديق اليقيني على سبيل الكشف وانشراح الصدر والمشاهدة بنور البصيرة وهذا أبعد الأقسام عن قبول الزيادة ولكني أقول الأمر اليقيني الذي لا شك فيه تختلف طمأنينة النفس إليه فليس طمأنينة النفس إلى أن الاثنين أكثر من الواحد كطمأنينتها إلى أن العالم مصنوع حادث وإن كان لا شك في واحد منهما فإن اليقينيات تختلف في درجات الإيضاح ودرجات طمأنينة النفس إليها وقد تعرضنا لهذا في فصل اليقين من كتاب العلم في باب علامات علماء الآخرة فلا حاجة إلى الإعادة

وقد ظهر في جميع الإطلاقات أن ما قالوه من زيادة الإيمان ونقصانه حق وكيف وفي الأخبار أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وفي بعض المواضع في خبر آخر مثقال دينار (٢) فأي معنى لاختلاف مقاديره إن كان ما في القلب لا يتفاوت

مسألة فإن قلت ما وجه قول السلف أنا مؤمن إن شاء الله والاستثناء شك والشك في الإيمان كفر وقد كانوا كلهم يمتنعون عن جزم الجواب بالإيمان ويحترزون عنه

فقال سفيان الثوري رحمه الله من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة فكيف يكون كاذباً وهو يعلم أنه مؤمن في نفسه ومن كان مؤمناً في نفسه كان مؤمناً عند الله كما أن من كان طويلاً وسخياً في نفسه وعلم ذلك كان كذلك عند الله وكذا من


(١) حديث الإيمان بضع وسبعون باباً وذكر بعد هذا فزاد فيه أدناها إماطة الأذى عن الطريق أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة الإيمان بضع وسبعون زاد مسلم في رواية وأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها فذكره ورواه بلفظ المصنف الترمذي وصححه
(٢) حديث يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار متفق عليه من حديث أبي سعيد وسيأتي ذكر الموت وما بعده

<<  <  ج: ص:  >  >>