ولا مرآة معه لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره وهذا فرض عين على العلماء كافة وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية وفي كل محلة فقيهاً متديناً يعلم الناس دينهم فإن الخلق لا يولدون إلا جهالاً فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع والدنيا دار المرضى إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ولا على ظهرها إلا سقيم ومرض القلوب أكثر من مرض الأبدان والعلماء أطباء والسلاطين قوام دار المرضى فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم يسلم إلى السلطان ليكف شره كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي أو الذي غلب عليه الجنون إلى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكف شره عن نفسه وعن سائر الناس
وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل إحداها أن المريض به لا يدري أنه مريض
والثانية أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه وما بعد الموت غير مشاهد وعاقبة الذنوب موت القلب وهو غير مشاهد في هذا العالم فقلت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال
والثالثة وهو الداء العضال فقد الطبيب فإن الأطباء هم العلماء وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضاً شديداً عجزوا عن علاجه وصارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضاً لأن الداء المهلك هو حب الدنيا وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه استنكافاً من أن يقال لهم فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم فبهذا السبب عم على الخلق الداء وعظم الوباء وانقطع الدواء وهلك الخلق لفقد الأطباء بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء فليتهم إذ لم ينصحوا لم يغشوا وإذا لم يصلحوا لم يفسدوا وليتهم سكتوا وما نطقوا فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم في مواعظهم إلا ما يرغب العوام ويستميل قلوبهم ولا يتوصلون إلى ذلك إلا بالإرجاء وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل الرحمة لأن ذلك ألذ في الأسماع وأخف على الطباع فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد استفادوا مزيد جراءة على المعاصي ومزيد ثقة بفضل الله ومهما كان الطبيب جاهلاً أو خائباً أهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه فالرجاء والخوف دواءان ولكن لشخصين متضادي العلة أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية وكلف نفسه ما لا تطيق وضيق العيش على نفسه بالكلية فتكسر سورة إسرافه في الخوف بذكر أسباب الرجاء ليعود إلى الاعتدال وكذلك المصر على الذنوب المشتهى للتوبة الممتنع عنها بحكم القنوط واليأس استعظاماً لذنوبه التي سبقت يعالج أيضاً بأسباب الرجاء حتى يطمع في قبول التوبة فيتوب فأما معالجة المغرور المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلباً للشفاء وذلك من دأب الجهال والأغبياء فإذن فساد الأطباء هي المعضلة الزباء التي لا تقبل الدواء أصلاً
فإن قلت فاذكر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق فاعلم أن ذلك يطول ولا يمكن استقصاؤه نعم نشير إلى الْأَنْوَاعُ النَّافِعَةُ فِي حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ وَحَمْلِ الناس على ترك الذنوب وهي أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ
{الْأَوَّلُ} أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار