البدن كله وفارقته أنواره التي كان يستفيدها من الروح وهي أنوار الإحساسات والقدر والإرادات وسائر ما يجمعها معنى لفظ الحياة فهذا أيضاً رمز وجيز إلى عالم آخر من عوالم نعم الله تعالى وعجائب صنعه وحكمته ليعلم أنه {لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} عز وجل فتعساً لمن كفر بالله تعساً وسحقاً لمن كفر نعمته سحقاً
فإن قلت فقد وصفت الروح ومثلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الروح فلم يزد عن أن قال {قل الروح من أمر ربي} فلم يصفه لهم على هذا الوجه فاعلم أن هذه غفلة عن الاشتراك الواقع في لفظ الروح فإن الروح يطلق لمعان كثيرة لا نطول بذكرها نحن إنما وصفنا من جملتها جسماً لطيفاً تسميه الأطباء روحاً وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه في الأعضاء وكيفية حصول الإحساس والقوى في الأعضاء به حتى إذا خدر بعض الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة في مجرى هذا الروح فلا يعالجون موضع الخدر بل منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها ويعالجونها بما يفتح السدة فإن هذا الجسم بلطفه ينفذ في شباك العصب وبواسطته يتأدى من القلب إلى سائر الأعضاء وما يرتقي إليه معرفة الأطباء فأمره سهل نازل وأما الروح التي هي الأصل وهي التي إذا فسدت فسد لها سائر البدن فذلك سر من أسرار الله تعالى لم نصفه ولا رخصة في وصفة إلا بأن يقال هو أمر رباني كما قال تعالى {قل الروح من أمر ربي} والأمور الربانية لا تحتمل العقول وصفها بل تتحير فيها عقول أكثر الخلق وأما الأوهام والخبالات فقاصرة عنها بالضرورة قصور البصر عن إدراك الأصوات وتتزلزل في ذكر مبادىء وصفها معاقد العقول المقيدة بالجوهر والعرض المحبوسة في مضيقها فلا يدرك بالعقل شيء من وصفه بل بنور آخر أعلى وأشرف من العقل يشرق ذلك النور في عالم النبوة والولاية نسبته إلى العقل نسبة العقل إلى الوهم والخيال وقد خلق الله تعالى الخلق أطواراً فكما يدرك الصبي المحسوسات ولا يدرك المعقولات لأن ذلك طور لم يبلغه بعد فكذلك يدرك البالغ المعقولات ولا يدرك ما وراءها لأن ذلك طور لم يبلغه بعد وإنه لمقام شريف ومشرب عذب ورتبة عالية فيها يلحظ جنات الحق بنور الإيمان واليقين وذلك المشرب أعز من أن يكون شريعة لكل وارد بل لا يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ولجناب الحق صدر وفي مقدمة الصدر مجال وميدان رحب وعلى أول الميدان عتبة هي مستقر ذلك الأمر الرباني فمن لم يكن له على هذه العتبة جواز ولا لحافظ العتبة مشاهدة واستحال أن يصل الميدان فكيف بالانتهاء إلى ما وراءه من المشاهدات العالية ولذلك قيل من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه وأنى يصادف هذا خزانة الأطباء ومن أين للطبيب أن يلاحظه بل المعنى المسمى روحاً عند الطبيب بالإضافة إلى هذا الأمر الرباني كالكرة التي يحركها صولجان الملك بالإضافة إلى الملك فمن عرف الروح الطبي فظن أنه أدرك الأمر الرباني كان كمن رأى الكرة التي يحركها صولجان الملك فظن أنه رأى الملك ولا يشك في أن خطأه فاحش وهذا الخطأ أفحش منه جداً ولما كانت العقول التي بها يحصل التكليف وبها تدرك مصالح الدنيا عقولاً قاصرة عن ملاحظة كنه هذا الأمر لم يأذن الله تعالى لرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحدث عنه بل أمره أن يكلم الناس على قدر عقولهم ولم يذكر الله تعالى في كتابه من حقيقة هذا الأمر شيئاً ولكن ذكر نسبته وفعله ولم يذكر ذاته أما نسبته ففي قوله تعالى {من أمر ربي} وأما فعله فقد ذكر في قوله تعالى ياأيها النفس