للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العبيد ولم يشعر بأنه كان المقصود ثبات صفة العلم في نفسه وتأكده في قلبه حتى يكون ذلك سبب سعادته في الدنيا وإنما كان ذلك من الوالد تلطفاً به في استجراره إلى ما فيه سعادته فهذا المثال يبين لك ضلال من ضل من هذا الطريق فإذن هذا المسكين الآخذ لمالك يستوفي بواسطة المال خبث البخل وحب الدنيا من باطنك فإنه مُهلك لك فهو كالحجام يستخرج الدم منك ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك فالحجام خادم لك لا أنت خادم للحجام

ولا يخرج الحجام عن كونه خادماً بأن يكون له غرض في أن يصنع شيئاً بالدم ولما كانت الصدقات مطهرة للبواطن ومزكية لها عن خبائث الصفات امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذها وانتهى عنها (١) كما نهى عن كسب الحجام وسماها أوساخ أموال الناس وشرف أهل بيته بالصيانة عنها (٢) والمقصود أن الأعمال مؤثرات في القلب كما سبق في ربع المهلكات والقلب بحسب تأثيرها مستعد لقبول الهداية ونور المعرفة فهذا هو القول الكلي والقانون الأصلي الذي ينبغي أن يرجع إليه في معرفة فضائل الأعمال والأحوال والمعارف ولنرجع الآن إلى خصوص ما نحن فيه من الصبر والشكر فنقول في كل واحد منهما معرفة وحال وعمل فلا يجوز أن تقابل المعرفة في أحدهما بالحال أو العمل في الآخر بل يقابل كل واحد منهما بنظيره حتى يظهر التناسب وبعد التناسب يظهر الفضل ومهما قوبلت معرفة الشاكر بمعرفة الصابر ربما رجعا إلى معرفة واحدة إذ معرفة الشاكر أن يرى نعمة العينين مثلاً من الله تعالى

ومعرفة الصابر أن يرى العمى من الله وهما معرفتان متلازمتان متساويتان هذا إن اعتبرنا في البلاء والمصائب

وقد بينا أن الصبر قد يكون على الطاعة وعن المعصية وفيهما يتحد الصبر والشكر لأن الصبر على الطاعة هو عين شكر الطاعة لأن الشكر يرجع إلى صرف نعمة الله تعالى إلى ما هو المقصود منها بالحكمة والصبر يرجع إلى ثَبَاتِ بَاعِثِ الدِّينِ فِي مُقَابَلَةِ بَاعِثِ الْهَوَى فالصبر والشكر فيه اسمان لمسمى واحد باعتبارين مختلفين فثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى يسمى صبراً بالإضافة إلى باعث الهوى ويسمى شكراً بالإضافة إلى باعث الدين إذ باعث الدين إنما خلق لهذه الحكمة وهو أن يصرع به باعث الشهوة وقد صرفه إلى مقصود الحكمة فهما عبارتان عن معنى واحد فكيف يفضل الشيء على نفسه فإذن مجاري الصبر ثلاثة الطاعة والمعصية والبلاء وقد ظهر حكمهما في الطاعة والمعصية وأما البلاء فهو عبارة عن فقد نعمة والنعمة إما أن تقع ضرورية كالعينين مثلاً وإما أن تقع في محل الحاجة كالزيادة على قدر الكفاية من المال أما العينان فصبر الأعمى عنهما بأن لا يظهر الشكوى ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى ولا يترخص بسبب العمى في بعض المعاصي وشكر البصير عليهما من حيث العمل بأمرين أحدهما أن لا يستعين بهما على معصية والآخر أن يستعملهما في الطاعة وكل أحد من الأمرين لا يخلو عن الصبر فإن الأعمى كفي الصبر عن الصور الجميلة لأنه لا يراها والبصير إذا وقع بصره على جميل فصبر كان شاكراً لنعمة العينين وإن أتبع النظر كفر نعمة العينين فقد دخل الصبر في شكره وكذا إذا استعان بالعينين على الطاعة فلا بد أيضاً فيه من صبر على الطاعة ثم قد يشكرها بالنظر إلى عجائب صنع الله تعالى ليتوصل به إلى معرفة الله سبحانه وتعالى فيكون هذا الشكر أفضل من الصبر ولولا هذا لكانت رتبة شعيب عليه السلام مثلاً وقد كان ضريراً من الأنبياء فوق رتبة موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء لأنه صبر على فقد البصر وموسى عليه السلام لم يصبر مثلاً ولكان الكمال في أن يسلب الإنسان الأطراف كلها ويترك كلحم على وضم وذلك محال جدا


(١) حديث النهي عن كسب الحجام تقدم
(٢) حديث امتنع من الصدقة وسماها أوساخ الناس وشرف أهل بيته بالصيانة عنها أخرجه مسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة أن هذه الصدقة لا تحل لنا إنما هي أوساخ القوم وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد وفي رواية له أوساخ الناس

<<  <  ج: ص:  >  >>