للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه الرجاء عليه صادق وإن كان ذلك انظارا مع انخرام أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق عليه أصدق من اسم الرجاء وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتقاء فاسم التمني أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب وعلى كل حال فلا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما يتردد فيه أما ما يقطع به فلا إذا لا يقال أرجو طلوع الشمس وقت الطلوع وأخاف غروبها وقت الغروب لأن ذلك مقطوع به نعم يقال أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه وقد عَلِمَ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ والقلب كالأرض والإيمان كالبدر فِيهِ وَالطَّاعَاتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى تَقْلِيبِ الْأَرْضِ وَتَطْهِيرِهَا وَمَجْرَى حَفْرِ الْأَنْهَارِ وَسِيَاقَةِ الْمَاءِ إِلَيْهَا وَالْقَلْبَ المستهتر في الدنيا الْمُسْتَغْرِقَ بِهَا كَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ الَّتِي لَا يَنْمُو فِيهَا الْبَذْرُ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْحَصَادِ وَلَا يحصد أحد إِلَّا مَا زَرَعَ وَلَا يَنْمُو زَرْعٌ إِلَّا من بذر السبخة التي لا ينمو إيمان مع خبث القلب وسوء أخلافه كَمَا لَا يَنْمُو بَذْرٌ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ رَجَاءُ الْعَبْدِ الْمَغْفِرَةَ بِرَجَاءِ صَاحِبِ الزَّرْعِ فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ أَرْضًا طَيِّبَةً وَأَلْقَى فِيهَا بَذْرًا جَيِّدًا غَيْرَ عَفِنٍ وَلَا مُسَوِّسٍ ثُمَّ أَمَدَّهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَهُوَ سَوْقُ الْمَاءِ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ ثُمَّ نَقَّى الشَّوْكَ عَنِ الْأَرْضِ وَالْحَشِيشَ وَكُلَّ مَا يَمْنَعُ نَبَاتَ الْبَذْرِ أَوْ يُفْسِدُهُ ثُمَّ جَلَسَ مُنْتَظِرًا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعَ الصَّوَاعِقِ وَالْآفَاتِ الْمُفْسِدَةِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الزَّرْعُ وَيَبْلُغَ غَايَتَهُ سُمِّيَ انْتِظَارُهُ رَجَاءً وَإِنْ بَثَّ الْبَذْرَ فِي أَرْضٍ صُلْبَةٍ سَبِخَةٍ مُرْتَفِعَةٍ لَا يَنْصَبُّ إِلَيْهَا الْمَاءُ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِتَعَهُّدِ الْبَذْرِ أَصْلًا ثُمَّ انْتَظَرَ الْحَصَادَ مِنْهُ سُمِّيَ انْتِظَارُهُ حُمْقًا وَغُرُورًا لَا رَجَاءً وَإِنْ بَثَّ الْبَذْرَ فِي أَرْضٍ طيبة ولكن لَا مَاءَ لَهَا وَأَخَذَ يَنْتَظِرُ مِيَاهَ الْأَمْطَارِ حَيْثُ لَا تَغْلِبُ الْأَمْطَارُ وَلَا تَمْتَنِعُ أَيْضًا سُمِّيَ انْتِظَارُهُ تَمَنِّيًا لَا رَجَاءً فَإِذَنِ اسْمُ الرجاء إنما يصدق على انتظاره مَحْبُوبٍ تَمَهَّدَتْ جَمِيعُ أَسْبَابِهِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا لَيْسَ يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ وَهُوَ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى بِصَرْفِ الْقَوَاطِعِ وَالْمُفْسِدَاتِ فَالْعَبْدُ إِذَا بَثَّ بَذْرَ الْإِيمَانِ وَسَقَاهُ بِمَاءِ الطَّاعَاتِ وَطَهَّرَ الْقَلْبَ عَنْ شَوْكِ الأخلاق الردئية وَانْتَظَرَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى تَثْبِيتَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى المغفرة وكان انتظاره رجاء حقيقا مَحْمُودًا فِي نَفْسِهِ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ القيام بمقتضى أسباب الإيمان في إنمام أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ إِلَى الْمَوْتِ وَإِنْ قَطَعَ عَنْ بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات وترك الْقَلْبَ مَشْحُونًا بِرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَانْهَمَكَ فِي طَلَبِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا ثُمَّ انْتَظَرَ الْمَغْفِرَةَ فَانْتِظَارُهُ حُمْقٌ وَغُرُورٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الجنة وقال تعالى فخلف من بعدهم أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا وَقَالَ تَعَالَى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لنا وذم الله تعالى صاحب البستان إذا دخل جنته وقال ما أظن تبيده هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رددت إلى ربدى لأجدن خيراً منها منقلباً فإذا الْعَبْدُ الْمُجْتَهِدُ فِي الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي حَقِيقٌ بِأَنْ يَنْتَظِرَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ وَمَا تَمَامُ النِّعْمَةِ إِلَّا بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا الْعَاصِي فَإِذَا تَابَ وَتَدَارَكَ جَمِيعَ مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ تَقْصِيرٍ فَحَقِيقٌ بِأَنْ يَرْجُوَ قَبُولَ التوبة وأما قبل التوبة إذا كان كارهاً للمعصية تسوءه السيئة وتسره الحسنة وهو يذم نفسه ويلومها ويشتهي التوبة ويشتاق إليها فحقيق بأن يرجو منا لله التوفيق للتوبة لأن كراهيته للمعصية وحؤصه على التوبة يجري مجرى السبب الذي قد يفضي إلى التوبة وإما الرَّجَاءُ بَعْدَ تَأَكُّدِ الْأَسْبَابِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله معناه أولئك يستحون أن يرجوا رحمة الله وما أراد به تخصيص وجود

<<  <  ج: ص:  >  >>