للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى الجملة فما يراد لغيره ينبغي أن يستعمل فيه لفظ الأصلح لا لفظ الأفضل فنقول أكثر الخلق الخوف لهم أصلح من الرجاء وذلك لأجل غلبة المعاصي

فأما التقي الذي ترك ظاهر الإثم وباطنه وخفيه وجليه فالأصلح أن يعتدل خوفه ورجاؤه ولذلك قيل لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا

وروي أن علياً كرم الله وجهه قال لبعض ولده يا بني خف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك وارج الله رجاءً ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك ولذلك قال عمر رضي الله عنه لو نودي ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل وهذا عبارة عن غاية الخوف والرجاء واعتدالهما مع الغلبة والاستيلاء ولكن على سبيل التقاوم والتساوي فمثل عمر رضي الله عنه ينبغي أن يستوي خوفه ورجاؤه فأما العاصي إذا ظن أنه الرجل الذي استثني من الذين أمروا بدخول النار كان ذلك دليلاً على اغتراره

فإن قلت مثل عمر رضي الله عنه لا ينبغي أن يتساوى خوفه ورجاؤه بل ينبغي أن يغلب رجاؤه كما سبق في أول كتاب الرجاء وأن قوته ينبغي أن تكون بحسب قوة أسبابه كما مثل بالزرع والبذر ومعلوم أن من بث البذر الصحيح في أرض نقية وواظب على تعهدها وجاء بشروط الزراعة جميعها غلب على قلبه رجاء الإدراك ولم يكن خوفه مساوياً لرجائه فهكذا ينبغي أن تكون أحوال المتقين فاعلم أن من يأخذ المعارف من الألفاظ والأمثلة يكثر زلله وذلك وإن أوردناه مثالاً فليس يضاهي ما نحن فيه من كل وجه لأن سبب غلبة الرجاء العلم الحاصل بالتجربة إذ علم بالتجربة صحة الأرض ونقاؤها وصحة البذر وصحة الهواء وقلة الصواعق المهلكة في تلك البقاع وغيرها وإنما مثال مسألتنا بذر لم يجرب جنسه وقد بث في أرض غريبة لم يعهدها الزارع ولم يختبرها وهي في بلاد ليس يدري أتكثر الصواعق فيها أم لا فمثل هذا الزارع وإن أدى كنه مجهوده وجاء بكل مقدوره فلا يغلب رجاؤه على خوفه والبذر في مسألتنا هو الإيمان وشروطه صحته دقيقة والأرض القلب وخفايا خبثه وصفائه من الشرك الخفي والنفاق والرياء وخفايا الأخلاق فيه غامضة والآفات هي الشهوات وزخارف الدنيا والتفات القلب إليها في مستقبل الزمان وإن سلم في الحال وذلك مما لا يتحقق ولا يعرف بالتجربة إذ قد تعرض من الأسباب ما لا يطاق مخالفته ولم يجرب مثله والصواعق هي أهوال سكرات الموت واضطراب الاعتقاد عنده وذلك مما لم يجرب مثله ثم الحصاد والإدراك عند المنصرف من القيامة إلى الجنة وذلك لم يجرب فمن عرف حقائق هذه الأمور فإن كان ضعيف القلب جباناً في نفسه غلب خوفه على رجائه لا محالة كما سيحكى في أحوال الخائفين من الصحابة والتابعين وإن كان قوي القلب ثابت الجأش تام المعرفة استوى خوفه ورجاؤه فأما أن يغلب رجاؤه فلا ولقد كان عمر رضي الله عنه يبالغ في تفتيش قلبه حتى كان يسأل حذيفة رضي الله عنه أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئاً إذ كان قد خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين (١)

فمن ذا الذي يقدر على تطهير قلبه من خفايا النفاق والشرك الخفي وإن اعتقد نقاء قلبه عن ذلك فمن أين يأمن مكر الله تعالى بتلبيس حاله عليه وإخفاء عيبه عنه وإن وثق به فمن أين يثق ببقائه على ذلك إلى تمام حسن الخاتمة وقد قال صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر // حديث إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبرا وفي رواية الأقدر فواق ناقة الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار وللبزار وللطبراني في الأوسط سبعين سنة وإسناده حسن وللشيخين في أثناء حديث لابن مسعود أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع الحديث ليس فيه تقدير زمن للعمل بخمسين سنة ولا ذكر شبر {ولا} فواق ناقة

وفي رواية إلا قدر فواق


(١) حديث أن حذيفة كان خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين أخرجه مسلم من حديث حذيفة في أصحابي اثنا عشر منافقا تمامه لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط الحديث

<<  <  ج: ص:  >  >>