للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما كان خطاب الشرع مع الكل لا مع ذلك النادر والضراء أصلح للكل دون ذلك النادر زجر الشرع عن الغنى وذمه وفضل الفقر ومدحه حتى قال المسيح عليه السلام لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم

وقال بعض العلماء تقليب الأموال يمص حلاوة الإيمان

وفي الخبر إن لكل أمة عجلاً وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم (١) وكان أصل عجل قوم موسى من حلية الذهب والفضة أيضاً واستواء المال والماء والذهب والحجر إنما يتصور للأنبياء عليهم السلام والأولياء ثم يتم لهم ذلك بعد فضل الله تعالى بطول المجاهدة إن كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ للدنيا إليك عني (٢) إذ كانت تتمثل له بزينتها

وكان علي كرم الله وجهه يقول يا صفراء غري غيري ويا بيضاء غري غيري وذلك لاستشعاره في نفسه ظهور مبادىء الاغترار بها لولا أن رأى برهان ربه وذلك هو الغنى المطلق إذ قال صلى الله عليه وسلم ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس (٣) وإذا كان ذلك بعيداً فإذن الأصلح لكافة الخلق فقد المال وإن تصدقوا به وصرفوه إلى الخيرات لأنهم لا ينفكون في القدرة على المال عن أنس بالدنيا وتمتع بالقدرة عليها واستشعار راحة في بذلها وكل ذلك يورث الأنس بهذا العالم وبقدر ما يأنس العبد بالدنيا يستوحش من الآخرة وبقدر ما يأنس بصفة من صفاته سوى صفة المعرفة بالله يستوحش من الله ومن حبه ومهما انقطعت أسباب الأنس بالدنيا تجافي القلب عن الدنيا وزهرتها والقلب إذا تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمناً بالله انصرف لا محالة إلى الله إذ لا يتصور قلب فارغ وليس في الوجود إلا الله تعالى وغيره فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه ومن أقبل عليه تجافى عن غيره ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر وقربه من أحدهما بقدر بعده من الآخر ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان فالمتردد بينهما يقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد من الآخر فعين حب الدنيا هو عين بغض الله تعالى فينبغي أن يكون مطمح نظر العارف قلبه في عزوبه عن الدنيا وأنسه بها فإذن فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبيهما بالمال فقط فإن تساويا فيه تساوت درجتهما إلا أن هذا مزلة قدم وموضع غرور فإن الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبه دفيناً في باطنه وهو لا يشعر به وإنما يشعر به إذا فقده فليجرب نفسه بتفريقه أو إذا سرق منه فإن وجد لقلبه إليه التفاتاً فليعلم أنه كان مغروراً فكم من رجل باع سرية له لظنه أنه منقطع القلب عنها فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التي كنت مستكنة فيه فتحقق إذن أنه كان مغروراً وأن العشق كان مستكناً في الفؤاد استكنان النار تحت الرماد وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء وإذا كان ذلك محالاً أو بعيداً فلنطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته وعباداته فإن حركات اللسان ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الأنس بالمذكور ولا يكون تأثيرها في إثارة الأنس في قلب فارغ من غير المذكور كتأثيرها في قلب مشغول ولذلك قال بعض السلف مثل من تعبد وهو في طلب الدنيا مثل من يطفىء النار بالحلفاء ومثل من يغسل يده من الغمر بالسمك


(١) حديث لكل أمة عجل وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم رواه أبو منصور الديلمي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي من حديث حذيفة بإسناد في جهالة
(٢) حديث كان يقول للدنيا إليك عني الحديث رواه الحاكم مع اختلاف وقد تقدم
(٣) حديث ليس الغنى عن كثرة العرض الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم

<<  <  ج: ص:  >  >>