في صفات الله تعالى ولما كانت معرفة بعض الأشياء قد تضره صار ذلك العلم نقصاناً في حقه إذ ليس من أوصاف الله تعالى علم يضره فمعرفة الأمور التي لا ضرر فيها هي التي تتصور في العبد من صفات الله تعالى فلا جرم هو منتهى الفضيلة وبه فضل الأنبياء والأولياء والعلماء فإذن لو استوى عنده وجود المال وعدمه فهذا نوع من الغنى يضاهي بوجه من الوجوه الغنى الذي يوصف به الله سبحانه وتعالى فهو فضيلة أما الغنى بوجود المال فلا فضيلة فيه أصلاً فهذا بيان نسبة حال الفقير القانع إلى حال الغني الشاكر
المقام الثاني في نسبة حال الفقير الحريص إلى حال الغني الحريص
ولنفرض هذا في شخص واحد هو طالب للمال وساع فيه وفاقد له ثم وجده فله حالة الفقد وحالة الوجود فأي حالتيه أفضل فنقول ننظر فإن كان مطلوبه ما لا بد منه في المعيشة وكان قصده أن يسلك سبيل الدين ويستعين به عليه فحال الوجود أفضل لأن الفقر يشغله بالطلب وطالب القوت لا يقدر على الفكر والذكر إلا قدرة مدخولة بشغل والمكفي هو القادر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا {وقال} كاد الفقر أن يكون كفراً أي الفقر مع الاضطرار فيما لا بد منه وإن كان المجلوب فوق الحاجة أو كان المطلوب قدر الحاجة ولكن لم يكن المقصود الاستعانة به على سلوك سبيل الدين فحالة الفقر أفضل وأصلح لأنهما استويا في الحرص وحب المال واستويا في أن كل واحد منهما ليس يقصد به الاستعانة على طريق الدين واستويا في أن كل واحد منهما ليس يتعرض لمعصية بسبب الفقر والغنى ولكن افترقا في أن الواجد يأنس بما وجده فيتأكد حبه في قلبه ويطمئن إلى الدنيا والفاقد المضطر يتجافى قلبه عن الدنيا وتكون الدنيا عنده كالسجن الذي يبغي الخلاص منه ومهما استوت الأمور كلها وخرج من الدنيا رجلان أحدهما أشد ركوناً إلى الدنيا فحاله أشد لا محالة إذ يلتفت قلبه إلى الدنيا ويستوحش من الآخرة بقدر تأكد أنسه بالدنيا وقد قال صلى الله عليه وسلم (١) حديث إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه تقدم // وهذا تنبيه على أن فراق المحبوب شديد فينبغي أن تحب من لا يفارقك وهو الله تعالى ولا تحب ما يفارقك وهو الدنيا فإنك إذا أحببت الدنيا كرهت لقاء الله تعالى فيكون قدومك بالموت على ما تكرهه وفراقك لما تحبه وكل من فارق محبوباً فيكون أذاه في فراقه بقدر حبه وقدر أنسه وأنس الواجد للدنيا القادر عليها أكثر من أنس الفاقد لها وإن كان حريصاً عليها فإذن قد انكشف بهذا التحقيق أن الفقر هو الأشرف والأفضل والأصلح لكافة الخلق إلا في موضعين أحدهما غني مثل غنى عائشة رضي الله عنها يستوي عنده الوجود والعدم فيكون الوجود مزيداً له إذ يستفيد به أدعية الفقراء والمساكين وجمع همهم والثاني الفقر عن مقدار الضرورة فإن ذلك يكاد أن يكون كفراً ولا خير فيه بوجه من الوجوه إلا إذا كان وجوده يبقي حياته ثم يستعين بقوته وحياته على الكفر والمعاصي ولو مات جزعا لكانت معاصيه أقل فالأصلح له أن يموت جوعاً ولا يجد ما يضطر إليه أيضا فهذا تفصيل القول في الغنى والفقر
ويبقى النظر في فقير حريص متكالب على طلب المال ليس له هم سواه وفي غنى دونه في الحرص على حفظ المال ولم يكن تفجعه بفقد المال لو فقده كتفجع الفقير بفقهره فهذا في محل النظر والأظهر أن بعدهما عن الله تعالى بقدر قوة تفجعهما لفقد المال وقربهما بقدر ضعف تفجعهما بفقده والعلم عند الله تعالى فيه
(١) إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحبب فإنك مفارقه