فلا يكون إلا واحداً ولا يتصور أن يختلف وإنما الجامع من هذه الأقاويل الكامل في نفسه وإن لم يكن فيه تفصيل ما قاله أبو سليمان الداراني إذ قال سمعنا في الزهد كلاماً كثيراً والزهد عندنا ترك كل شيء يشغلك عن الله عز وجل وقد فصل مرة وقال من تزوج أو سافر في طلب المعيشة أو كتب الحديث فقد ركن إلى الدنيا فجعل جميع ذلك ضداً للزهد وقد قرأ أبو سفيان قوله تَعَالَى إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بقلبٍ سَلِيمٍ فقال هو القلب الذي ليس فيه غير الله تعالى وقال إنما زهدوا في الدنيا لتفرغ قلوبهم من همومها للآخرة فهذا بيان انقسام الزهد بالإضافة إلى أصناف المزهود فيه فأما بالإضافة إلى أحكامه فينقسم إلى فرض ونفل وسلامة كما قاله إبراهيم بن أدهم فالفرض هو الزهد في الحرام
والنفل هو الزهد في الحلال
والسلامة هو الزهد في الشبهات
وقد ذكرنا تفاصيل درجات الورع في كتاب الحلال والحرام وذلك من الزهد إذ قيل لمالك بن أنس ما الزهد قال التقوى وأما بالإضافة إلى خفايا ما يتركه فلا نهاية للزهد فيه إذ لا نهاية لما تتمتع به النفس في الخطرات واللحظات وسائر الحالات لا سيما خفايا الرياء فإن ذلك لا يطلع عليه إلا سماسرة العلماء بل الأحوال الظاهرة أيضاً درجات الزهد فيها لا تتناهى فممن أقصى درجاته زهد عيسى عليه السلام إذ توسد حجراً في نومه فقال له الشيطان أما كنت تركت الدنيا فما الذي بدا لك قال وما الذي تجدد قال توسدك الحجر أي تنعمت برفع رأسك عن الأرض في النوم فرمى الحجر وقال خذه مع ما تركته لك
وروي عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه لبس المسوح حتى ثقب جلده تركاً للتنعم بلين اللباس واستراحة حس اللمس فسألته أمه أن يلبس مكان المسح جبة من صوف ففعل فأوحى الله تعالى إليه يا يحيى آثرت على الدنيا فبكى ونزع الصوف وعاد إلى ما كان عليه
وقال أحمد رحمه الله تعالى الزهد زهد أويس بلغ من العري أن جلس في قوصرة
وجلس عيسى عليه السلام في ظل حائط إنسان فأقامه صاحب الحائط فقال ما أقمتني أنت إنما أقامني الذي لم يرض لي أن أتنعم بظل الحائط فإذن درجات الزهدد ظاهراً وباطناً لا حصر لها وأقل درجاته الزهد في كل شبهة ومحظور
وقال قوم الزهد هو الزهد الحلال لافى الشبهة والمحظور فليس ذلك من درجاته في شيء ثم رأوا أنه لم يبق حلال في أموال الدنيا فلا يتصور الزهد الآن
فإن قلت مهما كان الصحيح هو أن الزهد ترك ما سوى الله فكيف يتصور ذلك مع الأكل والشرب واللبس ومخالطة الناس ومكالمتهم وكل ذلك اشتغال بما سوى الله تعالى فاعلم أن معنى الانصراف عن الدنيا إلى الله تعالى هو الإقبال بكل القلب عليه ذكراً وفكراً ولا يتصور ذلك إلا مع البقاء ولا بقاء إلا بضروريات النفس فمهما اقتصرت من الدنيا على دفع المهلكات عن البدن وكان غرضك الاستعانة بالبدن على العبادة لم تكن مشتغلاً بغير الله فإن ما لا يتوصل إلى الشيء إلا به فهو منه فالمشتغل بعلف الناقة وبسقيها في طريق الحج ليس معرضاً عن الحج ولكن ينبغي أن يكون بدنك في طريق الله مثل ناقتك في طريق الحج ولا غرض لك في تنعم ناقتك باللذات بل غرضك مقصور على دفع المهلكات عنها حتى تسير بك إلى مقصدك فكذلك ينبغي أن تكون في صيانة بدنك عن الجوع والعطش المهلك بالأكل والشرب وعن الحر والبرد المهلك باللباس والمسكن فتقصر على قدر الضرورة ولا تقصد التلذذ بل التقوى على طاعة الله تعالى فذلك لا يناقض الزهد بل هو شرط الزهد وإن قلت فلا بد وأن أتلذذ بالأكل عند الجوع فاعلم أن ذلك لا يضرك إذا لم يكن قصدك التلذذ فإن شارب الماء البارد قد يستلذ الشرب ويرجع حاصله إلى زوال ألم العطش ومن يقضي حاجته قد يستريح بذلك