للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المحسوسات فيقال هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه فيترك أياماً قلائل وما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء هذا حكم الجاحد

وأما الذي لا يجحد ولكن لا يفهم فطريق السالكين معه أن ينظروا إلى عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت فإن وجدوها صحيحة في الأصل وقد نزل فيها ماء أسود يقبل الإزالة والتنقية اشتغلوا بتنقيته اشتغال الكحال بالأبصار الظاهرة فإذا استوى بصره أرشد إلى الطريق ليسلكها كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم بخواص أصحابه فإن كان غير قابل للعلاج فلم يمكنه أن يسلك الطريق الذي ذكرناه في التوحيد ولم يمكنه أن يسمع كلام ذرات الملك والملكوت بشهادة التوحيد كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى حضيض فهمه فإن في عالم الشهادة أيضاً توحيداً إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد بصاحبين والبلد يفسد بأميرين فيقال له على حد عقله

إله العالم واحد والمدبر واحد إذ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق اللائق بقدر عقله وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم ولذلك نزل القرآن بلسان العرب على حد عادتهم في المحاورة

فإن قلت فمثل هذا التوحيد الاعتقادي هل يصلح أن يكون عماداً للتوكل وأصلاً فيه فأقول نعم فإن الاعتقاد إذا قوي عَمِلَ عَمَلَ الكشف في إثارة الأحوال إلا أنه في الغالب يضعف ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالباً ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه بكلامه أو إلى أن يتعلم هو الكلام ليحرس به العقيدة التي تلقنها من أستاذه أو من أبويه أو من أهل بلده

وأما لذى شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك بل لو كشف الغطاء لما ازداد يقيناً وإن كان يزداد وضوحاً كما أن الذي يرى إنساناً في وقت الإسفار لا يزداد يقيناً عند طلوع الشمس بأنه إنسان ولكن يزداد وضوحاً في تفصيل خلقته وما مثال المكاشفين والمعتقدين إلا كسحرة فرعون مع أصحاب السامري فإن سحرة فرعون لما كانوا مطلعين على منتهى تأثير السحر لطول مشاهدتهم وتجربتهم رأوا من موسى عليه السلام تجاوز حدود السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر فلم يكترثوا بقول فرعون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف {بل} قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا قاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فإن البيان والكشف يمنع التغيير وأما أصحاب السامري لما كان إيمانهم عن النظر إلى ظاهر الثعبان فلما نظروا إلى عجل السامري وسمعوا خواره تغيروا وسمعوا قوله هذا إلهكم وإله موسى ونسوا أنه لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً فكل من آمن بالنظر إلى ثعبان يكفر لا محالة إذا نظر إلى عجل لأن كليهما من عالم الشهادة والاختلاف والتضاد في عالم الشهادة كثير

وأما عالم الملكوت فهو من عند الله تعالى فلذلك لا نجد فيه اختلافاً وتضاداً أصلاً

فإن قلت ما ذكرته من التوحيد ظاهر مهما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات وكل ذلك ظاهر إلا في حركات الإنسان فإنه يتحرك إن شاء ويسكن إن شاء فكيف يكون مسخراً فاعلم أنه لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء لكان هذا مزلة القدم وموقع الغلط ولكن علم أنه يفعل ما يشاء إذا شاء إن يشأ أم لم يشأ فليست المشيئة إليه إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى وتسلسل إلى غير نهاية وإذا لم تكن إليه المشيئة فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة فالمشيئة تحدث ضرورة في القلب فهذا ضرورات ترتب بعضها على بعض

وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف

<<  <  ج: ص:  >  >>