للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمحامد ونعوت الكمال والمحاسن أن ينكر كون الله تعالى موصوفاً بها أو ينكر كون الكمال والجمال والبهاء والعظمة محبوباً بالطبع عند من أدركه فسبحان من احتجب عن بصائر العميان غيرة على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى الذين هم عن نار الحجاب مبعدون وترك الخاسرين في ظلمات العمى يتيهون وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون

فالحب بهذا السبب أقوى من الحب بالإحسان لأن الإحسان يزيد وينقص ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام إن أود الأوداء إلى من عبدني بغير نوال لكن ليعطي الربوبية حقها وفي الزبور من أظلم ممن عبدنى لجنة أونار لو لم أخلق جنة ولا ناراً ألم أكن أهلاً أن أطاع ومر عيسى عليه السلام على طائفة من العباد قد نحلوا فقالوا نخاف النار ونرجو الجنة فقال لهم مخلوقاً خفتم ومخلوقاً رجوتم ومر بقوم آخرين كذلك فقالوا نعبده حباً له وتعظيماً لجلاله فقال أنتم أولياء الله حقاً معكم أمرت أن أقيم وقال أبو حازم إني لأستحي أن أعبده للثواب والعقاب فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل وكالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل

وفي الخبر لا يكونن أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجراً لم يعمل ولا كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل (١)

وأما السبب الخامس للحب فهو المناسبة والمشاكلة لأن شبه الشيء منجذب إليه والشكل إلى الشكل أميل

ولذلك ترى الصبي يألف الصبي والكبير يألف الكبير ويألف الطير نوعه وينفر من غير نوعه وأنس العالم بالعالم أكثر منه بالمحترف وأنس النجار بالنجار أكثر من أنسه بالفلاح وهذا أمر تشهد به التجربة وتشهد له الأخبار والآثار كما استقصيناه في باب الأخوة في الله من كتاب آداب الصحبة فليطلب منه

وإذا كانت المناسبة سبب المحبة فالمناسبة قد تكون في معنى ظاهر كمناسبة الصبي الصبى في معنى الصبا وقد يكون خفياً حتى لا يطلع عليه كما ترى من الاتحاد الذي يتفق بين شخصين من غير ملاحظة جمال أو طمع في مال أو غيره كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فالتعارف هو التناسب والتناكر هو التباين وهذا السبب أيضاً يقتضي حب الله تعالى لمناسبة باطنة لا ترجع إلى المشابهة في الصور والأشكال بل إلى معان باطنة يجوز أن يذكر بعضها في الكتب وبعضها لا يجوز أن يسطر بل يترك تحت غطاء الغبرة حتى يعثر عليه السالكون للطريق إذا استكملوا شرط السلوك

فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه عز وجل في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية حتى قيل تخلقوا بأخلاق الله وذلك في اكتساب محامد الصفات التي هي من صفات الإلهية من العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق والنصيحة لهم وإرشادهم إلى الحق ومنعهم من الباطل إلى غير ذلك من مكارم الشريعة فكل ذلك يقرب إلى الله سبحانه وتعالى لا بمعنى طلب القرب بالمكان بل بالصفات

وأما ما لا يجوز أن يسطر في الكتب من المناسبة الخاصة التي اختص بها الآدمي فهى التى يومىء إليها قوله تعالى ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي إذ بين أنه أمر رباني خارج عن حد عقول الخلق وأوضح من ذلك قوله تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ولذلك أسجد له ملائكته ويشير إليه قوله تعالى إنا جعلناك خليفة في الأرض إذ لم يستحق آدم خلافة الله تعالى إلا بتلك المناسبة وإليه يرمز قوله صلى الله عليه وسلم


(١) حديث لا يكونن أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجراً لم يعمل لم أجد له أصلا

<<  <  ج: ص:  >  >>