نور الإيمان واليقين ولا معنى للاشتغال بالأسامي فإن الاصطلاحات مختلفة والضعيف يظن أن الاختلاف واقع في المعاني لأن الضعيف يطلب المعاني من الألفاظ وهو عكس الواجب فالقلب مفارق لسائر أجزاء البدن بصفة بها يدرك المعاني التي ليست متخيلة ولا محسوسة كإدراكه خلق العالم أو افتقاره إلى خالق قديم مدبر حكيم موصوف بصفات إلهية ولنسم تلك الغريزة عقلاً بشرط أن لا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طرق المجادلة والمناظرة فقد اشتهر اسم العقل بهذا ولهذا ذمه بعض الصوفية وإلا فالصفة التي فارق الإنسان بها البهائم وبها يدرك معرفة الله تعالى أعز الصفات فلا ينبغي أن تذم وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها فمقتضى طبعها المعرفة والعلم وهي لذتها كما أن مقتضى سائر الغرائز هو لذتها وليس يخفى أن في العلم والمعرفة لذة حتى إن الذي ينسب إلى العلم والمعرفة ولو في شيء خسيس يفرح به والذي ينسب إلى الجهل ولو في شيء حقير يغتم به وحتى أن الإنسان لا يكاد يصبر عن التحدي بالعلم والتمدح به في الأشياء الحقيرة فالعالم باللعب بالشطرنج على خسته لا يطيق السكوت فيه عن التعليم وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه وكل ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعره من كمال ذاته به فإن العلم من أخص صفات الربوبية وهي منتهى الكمال ولذلك يرتاح الطبع إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يستشعر عند سماع الثناء كمال ذاته وكمال علمه فيعجب بنفسه ويلتذ به ثم ليست لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق ولا لذة العلم بالنحو والشعر كلذة العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وملكوت السموات والأرض بل لذة العلم بقدر شرف العلم وشرف العلم بقدر شرف المعلوم حتى إن الذي يعلم بواطن أحوال الناس ويخبر بذلك يجد له لذة وإن جهله تقاضاه طبعه أن يفحص عنه فإن علم بواطن أحوال رئيس البلد وأسرار تدبيره في رياسته كان ذلك ألذ عنده وأطيب من علمه بباطن حال فلاح أو حائك فإن اطلع على أسرار الوزير وتدبيره وما هو عازم عليه في أمور الوزارة فهو أشهى عنده وألذ من علمه بأسرار الرئيس فإن كان خبيراً بباطن أحوال الملك والسلطان الذي هو المستولى على الوزير كان ذلك أطيب عنده وألذ من علمه بباطن أسرار الوزير وكان تمدحه بذلك وحرصه عليه وعلى البحث عنه أشد وحبه له أكثر لأن لذته فيه أعظم
فهذا استبان أن ألذ المعارف أشرفها وشرفها بحسب شرف المعلوم فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها وأطيبها
وليت شعري هل في الوجود شئ أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها ومزينها ومبدئها ومعيدها ومدبرها ومرتبها وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بمبادي جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين فإن كنت لا تشك في ذلك فلا ينبغي أن تشك في أن الإطلاع على أسرار الربوبية والعلم بترتب الأمور الإلهية المحيطة بكل الموجودات هو أعلى أنواع المعارف والاطلاعات وألذها وأطيبها وأشهاها وأحرى ما تستشعر به النفوس عند الاتصاف به كمالها وجمالها وأجدر ما يعظم به الفرح والارتياح والاستبشار وبهذا تبين أن العلم لذيذ وأن ألذ العلوم العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين فينبغي أن يعلم أن لذة المعرفة أقوى من سائر اللذات أعني لذة الشهوات والغضب ولذة سائر الحواس الخمس فإن اللذات مختلفة بالنوع أولاً كمخالفة لذة الوقاع للذة السماع ولذة المعرفة للذة الرياسة
وهي مختلفة بالضعف والقوة كمخالفة لذة الشبق المغتلم من الجماع للذة الفاتر للشهوة وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل الفائق الجمال للذة النظر إلى ما دونه في الجمال وإنما تعرف أقوى