للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسعة معارفهم وهم درجات عند الله ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم فقد ظهر أن لذة الرياسة وهي باطنة أقوى في ذوي الكمال من لذات الحواس كلها وأن هذه اللذة لا تكون لبهيمة ولا لصبي ولا لمعتوه وأن لذة المحسوسات والشهوات تكون لذوي الكمال مع لذة الرياسة ولكن يؤثرون الرياسة فأما معنى كون معرفة الله وصفاته وأفعاله وملكوت سمواته وأسرار ملكه أعظم لذة من الرياسة فهذا يختص بمعرفته من نال رتبة المعرفة وذاقها ولا يمكن إثبات ذلك عند من لا قلب له لأن القلب معدن هذه القوة كما أنه لا يمكن إثبات رجحان لذة الوقاع على لذة اللعب بالصولجان عند الصبيان ولا رجحانه على لذة شم البنفسج عند العنين لأنه فقد الصفة التي بها تدرك هذه اللذة ولكن من سلم من آفة العنة وسلم حاسة شمه أدرك التفاوت بين اللذتين وعند هذا لا يبقى إلا أن يقال من ذاق عرف

ولعمري طلاب العلوم وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة الأمور الإلهية فقد استنشقوا رائحة هذه اللذة عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي قوى حرصهم على طلبها فإنها أيضاً معارف وعلوم وإن كانت معلوماتها غير شريفة شرف المعلومات الإلهية فأما من طال فكره في معرفة الله سبحانه وقد انكشف له من أسرار ملك الله ولو الشئ اليسير فإنه يصادف في قلبه عند حصول الكشف من الفرح ما يكاد يطير به ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة فرحه وسروره وهذا مما لا يدرك إلا بالذوق والحكاية فيه قليلة الجدوى

فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله سبحانه ألذ الأشياء وأنه لا لذة فوقها

ولهذا قال أبو سليمان الداراني إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة فكيف تشغلهم الدنيا عن الله ولذلك قال بعض إخوان معروق الكرخي له أخبرني يا أبا محفوظ أي شئ هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق فسكت فقال ذكر الموت فقال وأي شئ الموت فقال ذكر القبر والبرزخ فقال وأى شئ القبر فقال خوف النار ورجاء الجنة فقال وأي شئ هذا إن ملكاً هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا

وفي أخبار عيسى عليه السلام إذا رأيت الفتى مشغوفاً بطلب الرب تعالى فقد ألهاه ذلك عما سواه

ورأى بعض الشيوخ بشر بن الحارث في النوم فقال ما فعل أبو نصر التمار وعبد الوهاب الوراق فقال تركتهما الساعة بين يدي الله تعالى يأكلان ويشربان قلت فأنت قال علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه

وعن علي بن الموفق قال رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة فرأيت رجلاً قاعداً على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات وهو يأكل ورأيت رجلاً قائماً على باب الجنة يتصفح وجوه الناس فيدخل بعضاً ويرد بعضاً قال ثم جاوزتهما إلى حديقة القدس فرأيت في سرادق العرش رجلاً قد شخص ببصره ينظر إلى الله تعالى لا يطرف فقلت لرضوان من هذا قال معروف الكرخي عبد الله لا خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنته بل حباً له فأباحه النظر إليه إلى يوم القيامة

وذكر أن الآخرين بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل ولذلك قال أبو سليمان من كان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه ومن كان اليوم مشغولاً بربه فهو عذا مشغول بربه

وقال الثوري لرابعة ما حقيقة إيمانك قالت ما عبدته خوفاً من ناره ولا حباً لجنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حباً له وشوقاً إليه وقالت في معنى المحبة نظماً

أحبك حبين حب الهوى ... وحباً لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا

وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا

<<  <  ج: ص:  >  >>