للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلا الله تعالى ثم تجاوز هذا إلى مقام آخر أسنى منه يسمى الحرية وهو أن يعتق أيضاً عن إرادته لله من حيث هو بل يقنع بما يريد الله له من تقريب أو إبعاد فتفنى إرادته في إرادة الله تعالى

وهذا عبد عتق عن غير الله فصار حراً ثم عاد وعتق عن نفسه فصار حراً

وصار مفقوداً لنفسه موجوداً لسيده ومولاه إن حركه تحرك وإن سكنه سكن وإن ابتلاه رضي لم يبق فيه متسع لطلب والتماس واعتراض بل هو بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل وهذا منتهى الصدق في العبودية لله تعالى

فالعبد الحق هو الذي وجوده لمولاه لا لنفسه وهذه درجة الصديقين

وأما الحرية عن غير الله فدرجات الصادقين وبعدها تتحقق العبودية لله تعالى وما قبل هذا فلا يستحق صاحبه أن يسمى صادقاً ولا صديقاً فهذا هو معنى الصدق في القول

الصدق الثاني فِي النِّيَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بَاعِثٌ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ مَازَجَهُ شَوْبٌ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ بَطَلَ صِدْقُ النِّيَّةِ وصاحبه يجوز أن يسمى كاذباً كما روينا في فضيلة الإخلاص من حديث الثلاثة حين يسئل العالم ما عملت فيما علمت فقال فعلت كذا وكذا فقال الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم (١) فإنه لم يكذبه ولم يقل له لم تعمل ولكنه كذبه في إرادته ونيته

وقد قال بعضهم الصدق صحة التوحيد في القصد

وكذلك قول الله تعالى والله يشهد إن المنافقين لكاذبون وقد قالوا إنك لرسول الله وهذا صدق ولكن كذبهم لا من حيث نطق اللسان بل من حيث ضمير القلب وكان التكذيب يتطرق إلى الخبر

وهذا القول يتضمن إخباراً بقرينة الحال إذ صاحبه يظهر من نفسه أن يعتقد ما يقول فكذب في دلالته بقرينة الحال على ما في قلبه فإنه كذب في ذلك ولم يكذب فيما يلفظ به فيرجع أحد معاني الصدق إلى خلوص النية وهو الإخلاص فكل صادق فلا بد وأن يكون مخلصاً

الصدق الثالث صدق العزم فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل فيقول في نفسه

إن رزقني الله مالاً تصدقت بجميعه أو بشطره أو إن لقيت عدواً في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبال وإن قتلت وإن أعطاني الله تعالى وِلَايَةً عَدَلْتُ فِيهَا وَلَمْ أَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى بظلم وميل إلى خلق

فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة فكان الصدق ههنا عبارة عن التمام والقوة كما يقال لفلان شهوة صادقة

ويقال هذا المريض شهوته كاذبة مهما لم تكن شهوته عن سبب ثابت قوي أو كانت ضعيفة فقد يطلق الصدق ويراد به هذا المعنى

والصادق والصديق هُوَ الَّذِي تُصَادِفُ عَزِيمَتُهُ فِي الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا قُوَّةً تَامَّةً لَيْسَ فِيهَا مَيْلٌ وَلَا ضَعْفٌ ولا تردد بل تسخو نفسه أبداً بالعزم المصمم الجازم على الخيرات وهو كما قال عمر رضي الله عنه لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر رضي الله عنه فإنه قد وجد من نفسه العزم الجازم والمحبة الصادقة بأنه لا يتأمر مع وجود أبي بكر رضي الله عنه وأكد ذلك بما ذكره من القتل

ومراتب الصديقين في العزائم تختلف فقد يصادف العزم ولا ينتهي به إلى أن يرضى بالقتل فيه ولكن إذا خلي ورأيه لم يقدم ولو ذكر له حديث القتل لم ينقض عزمه بل في الصادقين والمؤمنين من لو خير بين أن يقتل هو أو أبو بكر كانت حياته أحب من حياة أبي بكر الصديق

الصدق الرابع فِي الْوَفَاءِ بِالْعَزْمِ فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَسْخُو بِالْعَزْمِ فِي الْحَالِ إِذْ لَا مَشَقَّةَ فِي الوعد والعزم


(١) حديث الثلاثة حين سأل العالم ماذا عملت فيما علمت الحديث تقدم

<<  <  ج: ص:  >  >>