للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واجتناب الشبهات ويمنعه من الشهوات ويقتصر على قدر الضرورة

ويشرط على نفسه أنها إن خالفت شيئاً من ذلك عاقبها بالمنع عن شهوات البطن ليفوتها أكثر مما نالته بشهواتها

هكذا يَشْرِطُ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ يطول ولا تخفى معاصي الأعضاء وطاعاتها

ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ وَصِيَّتَهَا فِي وَظَائِفِ الطَّاعَاتِ الَّتِي تتكرر عليه في اليوم والليلة ثم النوافل التي يقدر عليها ويقدر على الاستكثار منها ويرتب لها تفصيلها وكيفيتها وكيفية الاستعداد لها بأسبابها

وهذه شروط يفتقر إليها في كل يوم ولكن إذا تعود الإنسان شرط ذلك على نفسه أياماً وطاوعته نفسه في الوفاء بجميعها استغنى عن المشارطة فيها وإن أطاعت في بعضها بقيت الحاجة إلى تجديد المشارطة فيما بقي ولكن لا يخلو كل يوم عن مهم جديد وواقعة حادثة لها حكم جديد ولله عليه في ذلك حق ويكثر هذا على من يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا مِنْ وِلَايَةٍ أو تجارة أو تدريس إذ قلما يخلو يوم عن واقعة جَدِيدَةٍ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى نَفْسِهِ الِاسْتِقَامَةَ فِيهَا وَالِانْقِيَادَ لِلْحَقِّ فِي مَجَارِيهَا وَيُحَذِّرَهَا مَغَبَّةَ الْإِهْمَالِ وَيَعِظَهَا كَمَا يُوعَظُ الْعَبْدُ الْآبِقُ الْمُتَمَرِّدُ فَإِنَّ النَّفْسَ بِالطَّبْعِ مُتَمَرِّدَةٌ عَنِ الطَّاعَاتِ مُسْتَعْصِيَةٌ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ وَلَكِنَّ الْوَعْظَ وَالتَّأْدِيبَ يُؤَثِّرُ فِيهَا {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}

فهذا وما يجري مجراه هو أول مقام المرابطة مع النفس وهي محاسبة قبل العمل

والمحاسبة تارة تكون بعد العمل وتارة قبله للتحذير قال الله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أنفسكم فاحذروه} وهذا للمستقبل

وكل نظر في كثرة ومقدار لمعرفة زيادة ونقصان فإنه يسمى محاسبة

فالنظر فيما بين يدي العبد في نهاره ليعرف زيادته من نقصانه من المحاسبة وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} وقال تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فاسق بنبأ فتبينوا} وقال تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ماتوسوس به نفسه ذكر ذلك تحذيراً وتنبيهاً للاحتراز منه في المستقبل

وروى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال لرجل سأله أن يوصيه ويعظه إذا أردت أمراً فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فامضه وإن كان غياً فانته عنه (١)

وقال بعض الحكماء إذا أردت أن يكون العقل غالباً للهوى فلا تعمل بقضاءالشهوة حتى تنظر العاقبة فإن مكث الندامة في القلب أكثر من مكث خفة الشهوة وقال لقمان إن المؤمن إذا أبصر العاقبة أمن الندامة وروى شداد بن أوس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى على الله (٢) دان نفسه أي حاسبها ويوم الدين يوم الحساب وقوله {أئنا لمدينون} أي لمحاسبون

وَقَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وتهيئوا للعرض الأكبر وكتب إلى أبي موسى الأشعري حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة

وقال لكعب كيف تجدها في كتاب الله قال ويل لديان الأرض من ديان السماء فعلاه بالدرة وقال إلا من حاسب نفسه فقال كعب ياأمير المؤمنين إنها إلى جنبها في التوراة ما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه

وهذا كله إشارة إلى المحاسبة للمستقبل إذ قال من دان نفسه يعمل لما بعد الموت

ومعناه وزن الأمور أولا وقدرها ونظر فيها وتدبرها ثم أقدم عليها فباشرها المرابطة الثانية: المراقبة

إذا أوصى الإنسان نفسه وشرط عليها ما ذكرناه فلا يبقى إلا المراقبة لها عند الخوض في الأعمال وملاحظاتها


(١) حديث عبادة بن الصامت إذا أردت أمراً فتدبر عاقبته الحديث تقدم
(٢) حديث الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الموت الحديث تقدم

<<  <  ج: ص:  >  >>