للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنْ كَانَ فِي مَعْصِيَةٍ فَمُرَاقَبَتُهُ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكر

وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاحٍ فَمُرَاقَبَتُهُ بِمُرَاعَاةِ الْأَدَبِ ثُمَّ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ فِي النِّعْمَةِ وَبِالشُّكْرِ عَلَيْهَا

وَلَا يَخْلُو الْعَبْدُ فِي جُمْلَةِ أَحْوَالِهِ عَنْ بَلِيَّةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَنِعْمَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الشُّكْرِ عَلَيْهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ

بَلْ لَا يَنْفَكُّ العبد في كل حال من فرض لله تَعَالَى عَلَيْهِ إِمَّا فِعْلٍ يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَتُهُ أَوْ مَحْظُورٍ يَلْزَمُهُ تَرْكُهُ أَوْ نَدْبٍ حَثَّ عَلَيْهِ لِيُسَارِعَ بِهِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُسَابِقَ بِهِ عِبَادَ اللَّهِ أَوْ مُبَاحٍ فِيهِ صَلَاحُ جِسْمِهِ وَقَلْبِهِ وَفِيهِ عَوْنٌ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ ولكل واحد من ذلك حدود لابد مِنْ مُرَاعَاتِهَا بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فقد ظلم نفسه} فينبغي أن يتفقد العبد نفسه في جميع أوقاته في هذه الأقسام الثلاثة فإذا كَانَ فَارِغًا مِنَ الْفَرَائِضِ وَقَدَرَ عَلَى الْفَضَائِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ لِيَشْتَغِلَ بِهَا فَإِنَّ مَنْ فَاتَهُ مَزِيدُ رِبْحٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَرْكِهِ فَهُوَ مَغْبُونٌ وَالْأَرْبَاحُ تُنَالُ بِمَزَايَا الفضائل فبذلك يأخذ العبد من دنياه لآخرته كما قال تعالى {ولا تنس نصيبك من الدنيا}

وكل ذلك إنما يمكن بصبر ساعة واحدة فإن الساعات ثلاث ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية

وساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا ولا يدرى ما يقضى الله فيها وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب فيها ربه فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الاولى

ولا يطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها بل يكون ابن وقته كأنه في آخر أنفاسه فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدرى وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحالة وتكون جميع أحواله مقصورة على ما رواه أبو ذر رضي الله تعالى عنه من قوله عليه السلام لا يكون المؤمن ظاعناً إلا في ثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم (١)

وما روى عنه أيضا في معناه وعلى العاقل أن تكون له أربعة ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعالى وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب (٢) فإن في هذه الساعة عونا له على بقية الساعات

ثم هذه الساعات التي هو فيها مشغول الجوارح بالمطعم والمشرب لا ينبغي أن يخلو عن عمل هو أفضل الأعمال وهو الذكر والفكر فإن الطعام الذى يتناوله مثلا فيه من العجائب ما لو تفكر فيه وفطن له كان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح

والناس فيه أقسام قسم ينظرون إليه بعين التبصر والاعتبار فينظرون في عجائب صنعته وكيفية ارتباط قوام الحيوانات به وكيفية تقدير الله لأسبابه وخلق الشهوات الباعثة عليه وخلق الآلات المسخرة للشهوة فيه كما فصلنا بعضه في كتاب الشكر وهذا مقام ذوى الألباب

وقسم ينظرون فيه بعين المقت والكراهة ويلاحظون وجه الاضطرار إليه وبودهم لو استغنوا عنه ولكن يرون أنفسهم مقهورين فيه مسخرين لشهواته وهذا مقام الزاهدين

وقوم يرون في الصنعة الصانع ويترقون منها إلى صفات الخالق فتكون مشاهدة ذلك سببا لتذكر أبواب من الفكر تنفتح عليهم بسببه وهو أعلى المقامات وهو من مقامات العارفين وعلامات المحبين إذ المحب إذا رأي صنعة حبيبه وكتابه وتصنيفه نسى الصنعة واشتغل قلبه بالصانع وكل ما يتردد العبد فيه صنع الله تعالى فله في النظر منه إلى


(١) حديث أبى ذر لا يكون المؤمن ظاعناً إلا في ثلاث تزود لمعاد الحديث أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال انه في صحف موسى وقد تقدم
(٢) حديث وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي بها ربه الحديث وهي بقية حديث أبى ذر الذى قبله

<<  <  ج: ص:  >  >>