للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رجل تسقط من قلبه إذا فعلت ذلك فذلك هو المراد لأنه أسلم لدينك وأقل لآفات نفسك أو رجل تزداد في قلبه بإظهارك الصدق فذلك الذي يريده أخوك لأنه يزداد ثواباً بزيادة حبه لك وتعظيمه إياك فتؤجر أنت إذ كنت سبب مزيد ثوابه

الثالث هو أن العارف لا نظر له إلا إلى الله عز وجل والسر والعلانية في حقه واحد فاختلاف الحال شرك في التوحيد قال بعضهم كنا لا نعبأ بدعاء من يأخذ في السر ويرد في العلانية

والالتفات إلى الخلق حضروا أم غابوا نقصان في الحال بل ينبغي أن يكون النظر مقصور على الواحد الفرد

حكي أن بعض الشيوخ كان كثير الميل إلى واحد من جملة المريدين فشق على الآخرين فأراد أن يظهر لهم فضيلة ذلك المريد فأعطى كل واحد منهم دجاجة وقال لينفرد كل واحد منكم بها وليذبحها حيث لا يراه أحد فانفرد كل واحد وذبح إلا ذلك المريد فإنه رد الدجاجة فسألهم فقالوا فعلنا ما أمرنا به الشيخ فقال الشيخ للمريد ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك فقال ذلك المريد لم أقدر على مكان لا يراني فيه أحد فإن الله يراني في كل موضع فقال الشيخ لهذا أميل إليه لأنه لا يلتفت لغير الله عز وجل

الرابع أن الإظهار إقامة لسنة الشكر وقد قال تعالى وأما بنعمة ربك فحدث والكتمان كفران النعمة وقد ذم الله عز وجل من كتم ما أتاه الله عز وجل وقرنه بالبخل فقال تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وقال صلى الله عليه وسلم إذا أنعم الله علي عبد نعمة أحب أن ترى نعمته عليه (١) وأعطى رجل بعض الصالحين شيئاً في السر فرفع به يده وقال هذا من الدنيا والعلانية فيها أفضل والسر في أمور الآخرة أفضل ولذلك قال بعضهم إذا أعطيت في الملأ فخذ ثم اردد في السر والشكر فيه محثوث عليه

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل (٢) والشكر قائم مقام المكافأة حتى قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْدَى إِلَيْكُمْ معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فأثنوا عليه به خيراً وادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ولما قال المهاجرين في الشكر يا رسول الله ما رأينا خيراً من قوم نزلنا عندهم قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله فقال صلى الله عليه وسلم كل ما شكرتم لهم وأثنيتم عليهم به فهو مكافأة (٣)

فالآن إذا عرفت هذه المعاني فاعلم أن ما نقل من اختلاف الناس فيه ليس اختلافاً في المسئلة بل هو اختلاف حال فكشف الغطاء في هذا أنا لا نحكم حكماً بتاً بأن الإخفاء أفضل في كل حال أو الإظهار أفضل بل يختلف ذلك باختلاف النيات وتختلف النيات باختلاف الأحول والأشخاص فينبغي أن يكون المخلص مُرَاقِبًا لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَتَدَلَّى بِحَبْلِ الْغُرُورِ ولا ينخدع بتلبيس الطبع ومكر الشيطان والمكر والخداع أغلب في معاني الإخفاء منه في الإظهار مع أن له دخلاً في كل واحد منهما

فأما مدخل الخداع في الإسرار فمن ميل الطبع إليه لما فيه من في خفض الجاه والمنزلة وسقوط القدر عن أعين الناس ونظر الخلق إليه بعين الازدراء وإلى المعطي بعين المنعم المحسن فهذا هو الداء الدفين ويستكن في النفس وللشيطان بواسطته يظهر معاني الخير حتى يتعلل بالمعاني الخمسة التي ذكرناها

ومعيار كل ذلك ومحكه أمر واحد وهو أن يكون تألمه بانكشاف أخذه الصدقة كتألمه بانكشاف صدقة أخذها بعض نظرائه وأمثاله فإنه إن كان يبغي صيانة الناس عن الغيبة والحسد وسوء الظن أو يتقي


(١) حديث إذا أنعم الله تعالى على عبد نعمة أحب أن ترى عليه أخرجه أحمد من حديث عمران بن حصين بسند صحيح وحسنه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
(٢) حديث مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ تقدم
(٣) حديث قالت المهاجرون يا رسول الله ما رأينا خيراً من قوم نزلنا عليهم الحديث أخرجه الترمذي وصححه من حديث أنس ورواه مختصرا أبو داود والنسائي في اليوم والليلة والحاكم وصححه ابن ماجه

<<  <  ج: ص:  >  >>