فليتفقد فيه أحوال القلب وأحوال الجليس أوّلاً ثم ليجالس
الفائدة الخامسة في نيل الثواب وإنالته
أما النيل فبحضور الجنائز وعيادة المريض وحضور العيدين وأما حضور الجمعة فلا بد منه
وَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ أَيْضًا لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهِ إِلَّا لِخَوْفِ ضَرَرٍ ظَاهِرٍ يُقَاوِمُ مَا يَفُوتُ مِنْ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتَّفِقُ إِلَّا نَادِرًا
وَكَذَلِكَ فِي حُضُورِ الْإِمْلَاكَاتِ وَالدَّعَوَاتِ ثَوَابٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِدْخَالُ سُرُورٍ عَلَى قَلْبِ مُسْلِمٍ
وَأَمَّا إنالته فهو أن يفتح الباب لتعوده الناس أو ليعزوه في المصائب أو يهنوه على النعم فإنهم ينالون بذلك ثواباً وكذلك إذا كان من العلماء وإذن لهم في الزيارة نالوا ثواب الزيارة وكان هو بالتمكين سبباً فيه فَيَنْبَغِي أَنَّ يَزِنَ ثَوَابَ هَذِهِ الْمُخَالَطَاتِ بِآفَاتِهَا الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ قَدْ تُرَجَّحُ الْعُزْلَةُ وقد ترجح المخالطة
فقد حكي عن جماعة من السلف مثل مالك وغيره ترك إجابة الدعوات وعيادة المرضى وحضور الجنائز بل كانوا أحلاس بيوتهم لا يخرجون إلا الى الجمعة أو زيارة القبور وبعضهم فارق الأمصار وانحاز الى قلل الجبال تفرغاً للعبادة وفراراً من الشواغل
الفائدة السادسة من المخالطة التَّوَاضُعُ فَإِنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَقَامَاتِ وَلَا
يُقْدَرُ عَلَيْهِ فِي الْوَحْدَةِ وَقَدْ يَكُونُ الْكِبْرُ سَبَبًا في اختيار العزلة
فقد روي في الإسرائيليات أن حكيماً من الحكماء صنف ثلثمائة وستين مصحفاً في الحكمة حتى ظن أنه قد نال عند الله منزلة فأوحى الله الى نبيه قل لفلان إنك قد ملأت الأرض نفاقاً وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً قال فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال الآن قد بلغت رضا ربي فأوحى اللًه الى نبيه قل له إنك لن تبلغ رضاي حتى تخالط الناس وتصبر على أذاهم فخرج فدخل الأسواق وخالط الناس وجالسهم وواكلهم وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم فأوحى الله تعالى إلى نبيه الآن قد بلغ رضاي
فكم من معتزل في بيته وباعثه الكبر ومانعه عن المحافل أن لا يوقر أَوْ لَا يُقَدَّمَ أَوْ يَرَى التَّرَفُّعَ عَنْ مخالطتهم أرفع لمحله وأتقى لطراوة ذكره بين الناس وقد يعتزل خيفة من أن تظهر مقابحه لو خالط فلا يعتقد فيه الزهد والإشتغال بالعبادة فيتخذ البيت ستراً على مقابحه إبقاء على اعتقاد الناس في زهده وتعبده من غير استغراق وقت الخلوة بذكر أو فكر وَعَلَامَةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُزَارُوا وَلَا يحبون أن يزوروا ويفرحون بتقرب العوام والسلاطين إليهم واجتماعهم على بابهم وطرقهم وتقبيلهم أيديهم على سبيل التبرك وَلَوْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِنَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يُبَغِّضُ إِلَيْهِ الْمُخَالَطَةَ وَزِيَارَةَ النَّاسِ لَبُغِّضَ إِلَيْهِ زِيَارَاتُهُمْ له كما حكيناه عن الفضيل حيث قال وهل جئتني إلا لأتزين لك وتتزين لي
وعن حاتم الأصم أنه قال للأمير الذي زاره حاجتي أن لا أراك ولا تراني
فمن ليس مشغولاً مع نفسه بذكر الله فاعتزاله عن الناس سَبَبُهُ شِدَّةُ اشْتِغَالِهِ بِالنَّاسِ لِأَنَّ قَلْبَهُ مُتَجَرِّدٌ لِلِالْتِفَاتِ إِلَى نَظَرِهِمْ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْوَقَارِ وَالِاحْتِرَامِ
والعزلة بهذا السبب جهل من وجوه أحدها أن التواضع والمخالطة لا تنقص من مَنْصِبِ مَنْ هُوَ مُتَكَبِّرٌ بِعِلْمِهِ أَوْ دِينِهِ إذ كان علي رضي الله عنه يحمل التمر والملح في ثوبه ويده ويقول
لا ينقص الكامل من كماله ... ما جر من نفع إلى عياله
وكان أبو هريرة وحذيفة وأبي وابن مسعود رضي الله عنهم يحملون حزم الحطب وجرب الدقيق على أكتافهم