للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصد في المآل

وذلك لاستيلاء الرجاء وحسن الظن على قلبه

فباختلاف هذه الأحوال يختلف الفهم

وحكى عن أبي القاسم بن مروان وكان قد صحب أبا سعيد الخراز رحمه الله وترك حضور السماع سنين كثيرة فحضر دعوة وفيها إنسان يقول

واقف في الماء عطشان ... ولكن ليس يسقى

فقام القوم وتواجدوا فلما سكنوا سألهم عن معنى ما وقع لهم من معنى البيت فأشاروا إلى التعطش إلى الأحوال الشريفة والحرمان منها مع حضور أسبابها فلم يقنعه ذلك فقالوا له فماذا عندك فيه فقال أن يكون في وسط الأحوال ويكرم بالكرامات ولا يعطى منها ذرة

وهذه إشارة إلى إثبات حقيقة وراء الأحوال والكرامات والأحوال سوابقها والكرامات تسنح في مباديها والحقيقة بعد لم يقع الوصول إليها

ولا فرق بين المعنى الذي فهمه وبين ما ذكروه إلا في تفاوت رتبة المتعطش إليه فإن المحروم عن الأحوال الشريفة أولاً يتعطش إليها فإن مكن منها تعطش إلى ما وراءها فليس بين المعنيين اختلاف في الفهم بل الاختلاف بين الرتبتين

وكان الشبلي رحمه الله كثيراً ما يتواجد على هذا البيت

ودادكم هجر وحبكم قلى ... ووصلكم صرم وسلمكم حرب

وهذا البيت يمكن سماعه على وجوه مختلفة وبعضها حق وبعضها باطل وأظهرها أن يفهم هذا في الخلق بل في الدنيا بأسرها بل في كل ما سوى الله تعالى

فإن الدنيا مكارة خداعة قتالة لأربابها معادية لهم في الباطن ومظهرة صورة الود فما امتلأت منها دار حبرة إلا امتلأت عبرة (١)

كما ورد في الخبر وكما قال الثعلبي في وصف الدنيا

تنح عن الدنيا فلا تخطبنها ... ولا تخطبن قتالة من تناكح

فليس يفي مرجوها بمخوفها ... ومكروهها أما تأملت راجح

لقد قال فيها الواصفون فأكثروا ... وعندي لها وصف لعمري صالح

سلاف قصاراها زعاف ومركب ... شهى إذا استذللته فهو جامح

وشخص جميل يؤثر الناس حسنه ... ولكن له أسرار سوء قبائح

والمعنى الثاني

أن ينزله على نفسه في حق الله تعالى فإنه إذا تفكر فمعرفته جهل إذ ما قدروا الله حق قدره

وطاعته رياء إذ لا يتقي الله حق تقاته وحبه معلول إذ لا يدع شهوة من شهواته في حبه

ومن أراد الله به خيراً بصره بعيوب نفسه فيرى مصداق هذا البيت في نفسه وإن كان على المرتبة بالإضافة إلى الغافلين وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (٢)

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ الله في اليوم والليلة سبعين مرة (٣)

وإنما كان استغفاره عن أحوال هي درجات بعد بالإضافة إلى ما بعدها وإن كانت قربا بالإضافة إلى ما قبلها فلا قرب إلا ويبقى وراءه قرب لا نهاية له إذ سبيل السلوك إلى الله تعالى غير متناه والوصول إلى أقصى درجات القرب محال

والمعنى الثالث أن ينظر في مبادئ أحواله فيرتضيها ثم ينظر في عوافيها فيزدريها لإطلاعه على خفايا الغرور فيها فيرى ذلك من الله تعالى فيستمع البيت في حق الله تعالى شكاية من القضاء والقدر وهذا كفر كما سبق بيانه وما من بيت إلا ويمكن تنزيله على معان وذلك بقدر غزارة علم


(١) حديث ما امتلأت دار منها حبرة إلا امتلأت عبرة أخرجه ابن المبارك عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير مرسلا
(٢) حديث لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك رواه مسلم وقد تقدم
(٣) حديث إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة تقدم في الباب الثاني من الاذكار

<<  <  ج: ص:  >  >>