للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب فيشاهد أيضاً بالبصر صورة الخضر عليه السلام فإنه يتمثل لأرباب القلوب بصور مختلفة

وفي مثل هذه الحالة تتمثل الملائكة للأنبياء عليهم السلام إما على حقيقة صورتها وإما على مثال يحاكي صورتها بعض المحاكاة

وقد رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عليه السلام مرتين في صورته وأخبر عنه بأنه سد الأفق (١)

وهو المراد بقوله تعالى {علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى} إلى آخر هذه الآيات

وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الإطلاع على ضمائر القلوب وقد يعبر عن ذلك الإطلاع بالتفرس

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله (٢)

وقد حكى أن رجلاً من المجوس كان يدور على المسلمين ويقول ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فكان يذكر له تفسيره فلا يقنعه ذلك حتى انتهى إلى بعض المشايخ من الصوفية

فسأله فقال له معناه أن تقطع الزنار الذي على وسطك تحت ثوبك

فقال صدقت هذا معناه وأسلم وقال الآن عرفت أنك مؤمن وأن إيمانك حق

وكما حكى عن إبراهيم الخواص قال كنت ببغداد في جماعة من الفقراء في الجامع فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه فقلت لأصحابي يقع لي أنه يهودي فكلهم كرهوا ذلك فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم وقال أي شيء قال الشيخ في فاحتشموه فألح عليهم فقالوا له قالإنك يهودي قال فجاءني وأكب على يدي وقبل رأسي وأسلم وقال نجد في كتبنا أن الصديق لا تخطىء فراسته فقلت امتحن المسلمين فتأملتهم فقلت إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه ويقرءون كلامه فلبست عليكم فلما اطلع على الشيخ وتفرس في علمت أنه صديق قال وصار الشاب من كبار الصوفية

وإلى مثل هذا الكشف الاشارة بقوله عليع السلام لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء (٣)

وإنما تحوم الشياطين على القلوب إذا كانت مشحونة بالصفات المذمومة فإنها مرعى الشيطان وجنده

ومن خلص قلبه من تلك الصفات وصفاه لم يطف الشيطان حول قلبه

وإليه الإشارة بقوله تعالى إلا عبادك منهم المخلصين وبقوله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} والسماع سبب لصفاء القلب وهو شبكة للحق بواسطة الصفاء

وعلى هذا يدل ما روى أن ذا النون المصري رحمه الله دخل بغداد فاجتمع إليه قوم من الصوفية ومعهم قوال فاستأذنوه في أن يقول لهم شيئاً

فأذن لهم في ذلك فأنشأ يقول

صغير هواك عذبني ... فكيف به إذا احتنكا ... وأنت جمعت في قلبي

هوى قد كان مشتركا ... أما ترثى لمكتئب ... إذا ضحك الخلي بكى

فقام ذو النون وسقط على وجهه ثم قام رجل آخر فقال ذو النون الذي يراك حين تقوم

فجلس ذلك الرجل وكان ذلك إطلاعاً من ذي النون على قلبه

أنه متكلف متواجد فعرفه أن الذي يراه حين يقوم هو الخصم في قيامه لغير الله تعالى ولو كان الرجل صادقاً لما جلس

فإذاً قد رجع حاصل الوجد إلى مكاشفات وإلى حالات واعلم أن كل واحد منهما ينقسم إلى ما يمكن التعبير عنه عند الافاقة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلاً

ولعلك تستبعد حالة أو علماً لا تعلم حقيقته ولا يمكن التعبير عنه عن حقيقته فلا تستبعد ذلك فإنك تجد في أحوالك القريبة لذلك شواهد


(١) حديث رأى جبريل عليه السلام مرتين في صورته فأخبر أنه سد الأفق متفق عليه من حديث عائشة
(٢) حديث اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وقال حديث غريب
(٣) حديث لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء تقدم في الصوم

<<  <  ج: ص:  >  >>