منه حال الرجاء ويورثه ذلك استبشارا وسروراً أو يخطر له من قوله تعالى {للذكر مثل حظ الأنثيين} تفضيل الذكر بكونه رجلاً على الأنثى وأن الفضل في الآخرة لرجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله
وأن من ألهاه غير الله تعالى عن الله تعالى فهو من الإناث لا من الرجال تحقيقاً فيخشى أن يحجب أو يؤخر في نعيم الآخرة كما أخرت الأنثى في أموال الدنيا
فأمثال هذا قد يحرك الوجد ولكن لمن فيه وصفان
أحدهما حالة غالبة مستغرقة قاهرة
والآخر تفطن بليغ وتيقظ بالغ كامل للتنبيه بالأمور القريبة على المعاني البعيدة وذلك مما يعز فلأجل ذلك يفزع إلى الغناء الذي هو ألفاظ مناسبة للأحوال حتى يتسارع هيجانها
وروي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوى فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم
رب ورقاء هتوف في الضحى ... ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت إلفا ودهراً صالحاً ... وبكت حزنا فهاجت حزني
فبكائي ربما أرقها ... وبكاها ربما أرقني
ولقد أشكو فما أفهمها ... ولقد تشكو فما تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضاً بالجوى تعرفني
قال فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه وإن كان العلم جداً وحقاً
الوجه الثاني أن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب وكلما سمع أولاً عظم أثره في القلوب وفي الكرة الثانية يضعف أثره وفي الثالثة يكاد يسقط أثره
ولو كلف صاحب الوجد الغالب أن يحضر وجده على بيت واحد على الدوام في مرات متقاربة في الزمان في يوم أو أسبوع لم يمكنه ذلك
ولو ابدل ببيت آخر لتجدد له أثر في قلبه وإن كان معرباً عن عين ذلك المعنى
ولكن كون النظم واللفظ غريباً بالإضافة إلى الأولى يحرك النفس وإن كان المعنى واحداً
وليس يقدر القارئ على أن يقرأ قرآناً غريباً في كل وقت ودعوة فإن القرآن محصور لا يمكن الزيادة عليه وكله محفوظ متكرر وإلى ما ذكرناه أشار الصديق رضي الله عنه حيث رأى الأعراب يقدمون فيسمعون القرآن ويبكون فقال كنا كما كنتم ولكن قست قلوبنا ولا تظنن أن قلب الصديق رضي الله عنه كان أقسى من قلوب الأجلاف من العرب وانه كان أخلى عن حب الله تعالى وحب كلامه من قلوبهم ولكن التكرار على قلبه اقتضى المرون عليه وقلة التأثر به لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه إذ محال في العادات أن يسمع السامع آية لم يسمعها قبل فيبكي ثم يدوم على بكائه عليها عشرين سنة ثم يرددها ويبكي ولا يفارق الأول الآخر إلا في كونه غريباً جديداً ولكل جديد لذة ولكل طارئ صدمة ومع كل مألوف أنس يناقض الصدمة
ولذا هم عمر رضي الله عنه أن يمنع الناس من كثرة الطواف وقال قد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت أي يأنسوا به
ومن قدم حاجاً فرأى البيت أولاً بكى وزعق وربما غشي عليه إذ وقع عليه بصره وقد يقيم بمكة شهراً ولا يحس من ذلك في نفسه بأثر فإذاً المغنى يقدر على الأبيات الغريبة في كل وقت ولا يقدر في كل وقت على آية غريبة
الوجه الثالث أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيراً في النفس فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات ولو زحف المغني البيت الذي ينشده أو لحن فيه