وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أحمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هرون حافياً راجلاً فهزأ بي من كان على باب الخليفة
ثم استؤذن لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد ثم قام قائماً وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ويقول انتفع الرسول وخاب المرسل مالي وللدنيا ولملك يزول عني سريعاً ثم ألقيت الكتاب إليه منشوراً كما دفع إلي
فأقبل هرون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق فقال بعض جلسائه يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن وكنت تجعله عبرة لغيره
فقال هرون اتركونا يا عبيد الدنيا المغرور من غررتموه والشقي من أهلكتموه وإن سفيان أمة وحده فاتركوا سفيان وشأنه
ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هرون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله
فرحم الله عبداً نظر لنفسه واتقى الله فيما يقدم عليه غداً من عمله فإنه عليه يحاسب وبه يجازى والله ولي التوفيق
وعن عبد الله بن مهران قال حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياماً ثم ضرب بالرحيل فخرج الناس وخرج بهلول المجنون فيمن خرج بالكناسة والصبيان يؤذونه ويولعون به إذ أقبلت هوادج هرون فكف الصبيان عن الولوع به فلما جاء هرون نادى بأعلى صوته يا أمير المؤمنين فكشف هرون السجاف بيده عن وجهه فقال لبيك يا بهلول فقال يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفاً من عرفة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك (١) وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك
قال فبكى هرون حتى سقطت دموعه على الأرض ثم قال يا بهلول زدنا رحمك الله قال نعم يا أمير المؤمنين رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله وعف في جماله كتب في خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار
قال أحسنت يا بهلول ودفع له جائزة فقال أردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها قال يا بهلول فإن كان عليك دين قضيناه قال يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز قال يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو يقيمك قال فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني
قال فأسبل هرون السجاف ومضى
وعن أبي العباس الهاشمي عن صالح بن المأمون قال دخلت على الحرث المحاسبي رحمه الله فقلت له يا أبا عبد الله هل حاسبت نفسك فقال كان هذا مرة قلت له فاليوم قال
أكاتم حالي إني لأقرأ آية من كتاب الله تعالى فأحتن بها أن تسمعها نفسي ولولا أن يغلبني فيها فرح ما أعلنت بها
ولقد كنت ليلة قاعداً في محرابي فإذا أنا بفتى حسن الوجه طيب الرائحة فسلم علي ثم قعد بين يدي فقلت له من أنت فقال أنا واحد من السياحين أقصد المتعبدين في محاريبهم ولا أرى لك اجتهاداً فأي شيء عملك قال قلت له كتمان المصائب واستجلاب الفوائد قال فصاح وقال ما علمت أن أحداً بين جنبي المشرق والمغرب هذه صفته قال الحرث فأردت أن أزيد عليه فقلت له أما علمت أن أهل القلوب يخفون أحوالهم ويكتمون أسرارهم ويسألون الله كتمان ذلك عليهم فمن أين تعرفهم قال فصاح صيحة غشي عليه منها فمكث عندي يومين لا يعقل ثم أفاق وقد أحدث في ثيابه فعلمت إزالة عقله فأخرجت له
(١) حديث قدامة بن عبد الله العامري رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفا عن عرفة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه دون قوله منصرفا من عرفة وإنما قالوا يرمى الجمرة وهو الصواب وقد تقدم في الباب الثاني