اختلاف الأحوال ثم هذه الأحوال المختلفة يسمعها فطن محتاط أو غبي مغرور فيقول المحتاط ما أنا من جملة العارفين حتى أسامح نفسي فليس نفسي أطوع من نفس سري السقطي ومالك بن دينار وهؤلاء من الممتنعين عن الشهوات فيقتدى بهم والمغرور يقول ما نفسي بأعصى علي من نفس معروف الكرخي وإبراهيم بن أدهم فاقتدى بهم وأرفع التقدير في مأكولي فأنا أيضاً ضيف في دار مولاي فمالي وللاعتراض ثم إنه لو قصر أحد في حقه وتوقيره أو في ماله وجاهه بطريقة واحدة قامت القيامة عليه واشتغل بالاعتراض وهذا مجال رحب للشيطان مع الحمقى بل رفع التقدير في الطعام والصيام وأكل الشهوات لا يسلم إلا لمن ينظر من مشكاة الولاية والنبوة فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس عن طاعة الهوى والعادة بالكلية حتى يكون أكله إذا أكل على نية كما يكون إمساكه بنية فيكون عاملاً لله في أكله وإفطاره فينبغي أن يتعلم الحزم من عمر رضي الله عنه فإنه كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل ويأكله // حديث كان يحب العسل ويأكله متفق عليه من حديث عائشة كان يحب الحلواء والعسل الحديث وفيه قصة شربه العسل عند بعض نسائه ثم لم يقس نفسه عليه بل لما عرضت عليه شربة باردة ممزوجة بعسل جعل يدير الإناء في يده ويقول أشربها وتذهب حلاوتها وتبقى تبعتها اعزلوا عني حسابها وتركها
وهذه الأسرار لا يجوز لشيخ أن يكاشف بها مريده بل يقتصر على مدح الجوع فقط ولا يدعوه إلى الاعتدال فإنه يقصر لا محال عما يدعوه إليه فينبغي أن يدعوه إلى غاية الجوع حتى يتيسر له الاعتدال
ولا يذكر له أن العارف الكامل يستغني عن الرياضة فإن الشيطان يجد متعلقاً من قلبه فيلقى إليه كل ساعة إنك عارف كامل وما الذي فاتك من المعرفة والكمال بل كان من عادة إبراهيم الخواص أن يخوض مع المريد في كل رياضة كان يأمره بها كيلا يخطر بباله أن الشيخ يأمره بما لم يفعل فينفره ذلك من رياضته والقوي إذا اشتغل بالرياضة وإصلاح الغير لزمه النزول إلى حد الضعفاء تشبهاً بهم وتلطفاً في سياقتهم إلى السعادة وهذا ابتلاء عظيم للأنبياء والأولياء وإذا كان الاعتدال خفياً في حق كل شخص فالحزم والاحتياط ينبغي أن لا يترك في كل حال ولذلك أدب عمر رضي الله عنه ولده عبد الله إذ دخل عليه فوجده يأكل لحماً مأدوماً بسمن فعلاه بالدرة وقال لا أم لك كل يوماً خبزاً ولحماً ويوماً خبزاً ولبناً ويوماً خبزاً وسمناً ويوماً خبزاً وزيتاً ويوماً خبزاً وملحاً ويوماً خبزاً قفاراً وهذا هو الاعتدال فأما المواظبة على اللحم والشهوات فإفراط وإسراف ومهاجرة اللحم بالكلية إقتار وهذا قوام بين ذلك والله تعالى أعلم
بيان آفة الرياء المتطرق إلى من ترك أكل الشهوات وقلل الطعام
اعلم أنه يدخل على تارك الشهوات آفتان عظيمتان هما أعظم من أكل الشهوات
إحداهما أن لا تقدر النفس على ترك بعض الشهوات فتشتهيها ولكن لا يريد أن يعرف بأنه يشتهيها فيخفي الشهوة ويأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة وهذا هو الشرك الخفي سئل بعض العلماء عن بعض الزهاد فسكت عنه فقيل له هل تعلم به بأساً قال يأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة وهذه آفة عظيمة بل حق العبد إذا ابتلى بالشهوات وحبها أن يظهرها فإن هذا صدق الحال وهو بدل عن فوات المجاهدات بالأعمال فإن إخفاء النقص وإظهار ضده من الكمال هو نقصانان متضاعفان والكذب مع الإخفاء كذبان فيكون مستحقا لمقتين ولا يرضى منه إلا بتوبتين صادقتين