للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولست أعني بالتكلم فيما لا يعني هذه الأجناس فإن هذا يتطرق إليه إثم أو ضرر

وإنما مثال ما لا يعني ما روي أن لقمان الحكيم دخل على داود عليه السلام وهو يسرد درعاً ولم يكن رآها قبل ذلك اليوم فجعل يتعجب مما رأى فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته فأمسك نفسه ولم يسأله فلما فرغ قام داود ولبسه ثم قال نعم الدرع للحرب فقال لقمان الصمت حكم وقليل فاعله أي حصل العلم به من غير سؤال فاستغنى عن السؤال وقيل انه كان يتردد إليه سنة وهو يريد أن يعلم ذلك من غير سؤال فهذا وأمثاله من الأسئلة إذا لم يكن فيه ضرر وهتك ستر وتوريط في رياء وكذب هو مما لا يعني وتركه من حسن الإسلام فهذا حده

وأما سببه الباعث عليه فالحرص عَلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد أَوْ تَزْجِيَةِ الْأَوْقَاتِ بِحِكَايَاتِ أَحْوَالٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا

وَعِلَاجُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الموت بين يديه وأنه مسؤول عن كل كلمة وأن أَنْفَاسَهُ رَأْسُ مَالِهِ وَأَنَّ لِسَانَهُ شَبَكَةٌ يَقْدِرُ أن يقتنص بها الحور العين فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين هذا علاجه من حيث العلم وأما من حيث العمل فالعزلة أو أن يضع حصاة في فيه وأن يلزم نفسه السكوت بها عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه وضبط اللسان في هذا على غير المعتزل شديد جداً الْآفَةُ الثَّانِيَةُ فُضُولُ الْكَلَامِ

وَهُوَ أَيْضًا مَذْمُومٌ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْخَوْضَ فِيمَا لَا يَعْنِي وَالزِّيَادَةَ فِيمَا يَعْنِي عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ مَنْ يَعْنِيهِ أَمْرٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِكَلَامٍ مُخْتَصَرٍ ويمكنه أن يجسمه ويقرره وَيُكَرِّرَهُ وَمَهْمَا تَأَدَّى مَقْصُودُهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَذَكَرَ كَلِمَتَيْنِ فَالثَّانِيَةُ فُضُولٌ أَيْ فَضْلٌ عَنِ الْحَاجَةِ وَهُوَ أَيْضًا مَذْمُومٌ لِمَا سَبَقَ وَإِنْ لَمْ يكن فيه إثم ولا ضرر قال عطاء بن أبي رباح إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نهياً عن منكر أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك مِنْهَا أَتُنْكِرُونَ أَنَّ عَلَيْكُمْ حَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ من قول إلا لديه رقيب عتيد أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ إِذَا نُشِرَتْ صَحِيفَتُهُ الَّتِي أَمْلَاهَا صَدْرَ نَهَارِهِ كَانَ أَكْثَرُ مَا فِيهَا ليس من أمر دينه ولا دنياه وعن بعض الصحابة قال إن الرجل ليكلمني بالكلام لجوابه أشهى إلي من الماء البارد إلى الظمآن فأترك جوابه خيفة أن يكون فضولاً وقال مطرف ليعظم جلال الله في قلوبكم فلا تذكروه عند مثل قول أحدكم للكلب والحمار اللهم اخزه وما أشبه ذلك

وَاعْلَمْ أَنَّ فُضُولَ الْكَلَامِ لَا يَنْحَصِرُ بَلِ الْمُهِمُّ مَحْصُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ معروف أو إصلاح بَيْنَ النَّاسِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُوبَى لِمَنْ أَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ (١)

فَانْظُرْ كَيْفَ قَلَبَ النَّاسُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ فَأَمْسَكُوا فَضْلَ الْمَالِ وَأَطْلَقُوا فضل اللسان وعن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال قدمت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رهط من بني عامر


(١) حديث طُوبَى لِمَنْ أَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ وَأَنْفَقَ الفضل من ماله أخرجه البغوي وابن قانع في معجمي الصحابة والبيهقي من حديث ركب المصري وقال ابن عبد البر إنه حديث حسن وقال البغوي لا أدري سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أم لا وقال ابن مندة مجهول لا نعرف له صحبة ورواه البزار من حديث أنس بسند ضعيف

<<  <  ج: ص:  >  >>