للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان كاذباً قرضت شفتاه بمقاريض من نار كلما قرضتا نبتتا

وقال مالك بن دينار الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه وكلم عمر بن عبد العزيز الوليد بن عبد الملك في شيء فقال له كذبت فقال عمر والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه

بَيَانُ مَا رُخِّصَ فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ

اعْلَمْ أن الكذب ليس حراماً لعينه بل لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُخَاطَبِ أَوْ على غيره فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً وقد يتعلق به ضرر غيره ورب جهل فيه منفعة ومصلحة فالكذب محصل لذلك الجهل فيكون مأذوناً فيه وربما كان واجباً

قال ميمون بن مهران الكذب في بعض المواطن خير من الصدق أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله فدخل داراً فانتهى إليك فقال أرأيت فلاناً ما كنت قائلاً ألست تقول لم أره وما تصدق به وهذا الكذب واجب

فنقول الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً وواجب إن كان المقصود واجباً كما أن عصمة دم المسلم واجبة فمهما كان في الصدق سفك دم أمرىء مسلم قَدِ اخْتَفَى مِنْ ظَالِمٍ فَالْكَذِبُ فِيهِ وَاجِبٌ ومهما كَانَ لَا يَتِمُّ مَقْصُودُ الْحَرْبِ أَوْ إِصْلَاحُ ذات البين أن استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة

والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت ما سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث الرجل يقول القول يريد به الإصلاح والرجل يقول القول في الحرب والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها (١) وقالت أيضاً قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِكَذَّابٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَالَ خيراً أو نمى خيرا (٢) حديث أسماء بنت يزيد كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما أخرجه أحمد بزيادة فيه وهو عند الترمذي مختصرا وحسنه وروي عن أبي كامل قال وقع بين اثنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلام حتى تصارما فلقيت أحدهما فقلت مالك ولفلان فقد سمعته يحسن عليك الثناء ثم لقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتى اصطلحا ثم قلت أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا كاهل أصلح بين الناس (٣) أي ولو بالكذب وقال عطاء بن يسار قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أكذب على أهلي قال لا خير في الكذب قال أعدها وأقول لها قال لا جناح عليك (٤)


(١) حديث أم كلثوم ما سمعته يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث أخرجه مسلم وقد تقدم
(٢) حديث أم كلثوم أيضا ليس بكذاب من أصلح بين الناس الحديث متفق عليه وقد تقدم والذي قبله عند مسلم بعض هذا
وقالت أسماء بنت يزيد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما
(٣) حديث أبي كاهل وقع بين رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلام الحديث وفيه يا أبا كاهل أصلح بين الناس رواه الطبراني ولم يصح
(٤) حديث عطاء بن يسار قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أكذب على أهلي قال لا خير في الكذب قال أعدها وأقول لها قال لا جناح عليك أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من رواية صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار مرسلا وهو في الموطأ عن صفوان بن سليم معضلا من غير ذكر عطاء بن يسار

<<  <  ج: ص:  >  >>