أسباب الغضب وما لا يمكن محوه يمكن كسره وتضعيفه فيضعف الغضب بسببه ويهون دفعه نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه أنه على كل شيء قدير والحمد لله وحده
بَيَانُ الْأَسْبَابِ الْمُهَيِّجَةِ لِلْغَضَبِ
قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ علاج كل علة حسم مَادَّتِهَا وَإِزَالَةِ أَسْبَابِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أسباب الغضب وقد قال يحيى لعيسى عليهما السلام أي شيء أشد قال غضب الله قال فما يقرب من غضب الله قال أن تغضب قال فما بيدي الغضب وما ينبته قال عيسى الكبر والفخر والتعزز والحمية
والأسباب المهيجة للغضب هِيَ الزَّهْوُ وَالْعُجْبُ وَالْمِزَاحُ وَالْهَزْلُ وَالْهُزْءُ وَالتَّعْيِيرُ والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول الْمَالِ وَالْجَاهِ وَهِيَ بِأَجْمَعِهَا أَخْلَاقٌ رَدِيئَةٌ مَذْمُومَةٌ شَرْعًا وَلَا خَلَاصَ مِنَ الْغَضَبِ مَعَ بَقَاءِ هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بِأَضْدَادِهَا
فَيَنْبَغِي أَنْ تُمِيتَ الزَّهْوَ بِالتَّوَاضُعِ وَتُمِيتَ العجب بمعرفتك بنفسك كما سيأتي بيانه في كتاب الكبر والعجب وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إِذِ النَّاسُ يَجْمَعُهُمْ فِي الِانْتِسَابِ أَبٌ وَاحِدٌ وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها فإذا لم تخل عنها فلا فضل لك على غيرك فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة وَأَمَّا الْمِزَاحُ فَتُزِيلُهُ بِالتَّشَاغُلِ بِالْمُهِمَّاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك وَأَمَّا الْهَزْلُ فَتُزِيلُهُ بِالْجِدِّ فِي طَلَبِ الْفَضَائِلِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تُبْلِغُكَ إِلَى سعادة الآخرة وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إِيذَاءِ النَّاسِ وَبِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ أَنْ يُسْتَهْزَأَ بك وأما التعيير فالحذر عَنِ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ وَصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ مُرِّ الجواب وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ طَلَبًا لِعِزِّ الِاسْتِغْنَاءِ وَتَرَفُّعًا عَنْ ذُلِّ الْحَاجَةِ
وَكُلُّ خُلُقٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ وَصِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَفْتَقِرُ فِي عِلَاجِهِ إلى رياضة وتحمل مشقة وحاصل رياضتها يرجع إِلَى مَعْرِفَةِ غَوَائِلِهَا لِتَرْغَبَ النَّفْسُ عَنْهَا وَتَنْفِرَ عن قبحها ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة عَلَى النَّفْسِ فَإِذَا انْمَحَتْ عَنِ النَّفْسِ فَقَدْ زَكَتْ وَتَطَهَّرَتْ عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَتَخَلَّصَتْ أَيْضًا عن الغضب الذي يتولد منها
ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلاً حتى تميل النفس إليه وتستحسنه وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل وهو لضعف النفس ونقصانها وآية أنه لضعف النفس أن المريض أسرع غضباً من الصحيح والمرأة أسرع غضباً من الرجل والصبي أسرع غضباً من الرجل الكبير والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل وذو الخلق السيء والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل
فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة ولبخله إذا فاتته الحبة حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه
بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب (١) بل ينبغي أن يعالج هذا الجاهل بأن تتلي عليه
(١) حديث ليس الشديد بالصرعة تقدم قبله