للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحداً في حال غضبه لأنه ربما يتعدى الواجب ولأنه ربما يكون متغيظاً عليه فيكون متشفيا لغبظه ومريحاً نفسه من ألم الغيظ فيكون صاحبه حظ نفسه فينبغي أن يكون انتقامه وانتصاره لله تعالى لا لنفسه ورأى عمر رضي الله عنه سكران فأراد أن يأخذه ويعزره فشتمه السكران فرجع عمر فقيل له يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته قال لأنه أغضبني ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي ولم أحب أن أضرب مسلماً حمية لنفسي وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لرجل أغضبه لولا أنك أغضبتني لعاقبتك

القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق

اعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ إِذَا لَزِمَ كَظْمُهُ لِعَجْزٍ عَنِ التَّشَفِّي فِي الْحَالِ رَجَعَ إِلَى الْبَاطِنِ وَاحْتَقَنَ فِيهِ فَصَارَ حِقْدًا وَمَعْنَى الْحِقْدِ أَنْ يَلْزَمَ قَلْبُهُ اسْتِثْقَالَهُ وَالْبِغْضَةَ لَهُ وَالنِّفَارَ عَنْهُ وَأَنْ يَدُومَ ذَلِكَ وَيَبْقَى وَقَدْ قَالَ صَلَّى الله عليه وسلم المؤمن ليس بحقود (١) فالحقد ثمرة الغضب والحقد يثمر ثمانية أمور الْأَوَّلُ الْحَسَدُ وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَكَ الْحِقْدُ عَلَى أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغثم بِنِعْمَةٍ إِنْ أَصَابَهَا وَتُسَرَّ بِمُصِيبَةٍ إِنْ نَزَلَتْ به وهذا من فعل المنافقين وسيأتي ذمه إن شاء الله تعالى الثاني أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن فتشمت بِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ الثَّالِثُ أَنْ تَهْجُرَهُ وَتُصَارِمَهُ وَتَنْقَطِعَ عَنْهُ وَإِنْ طَلَبَكَ وَأَقْبَلَ عَلَيْكَ الرَّابِعُ وَهُوَ دُونَهُ أَنْ تُعْرِضَ عَنْهُ اسْتِصْغَارًا لَهُ الْخَامِسُ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِيهِ بِمَا لَا يَحِلُّ مِنْ كَذِبٍ وَغِيبَةٍ وَإِفْشَاءِ سِرٍّ وَهَتْكِ ستر وغيره السَّادِسُ أَنْ تُحَاكِيَهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ وَسُخْرِيَةً مِنْهُ السَّابِعُ إِيذَاؤُهُ بِالضَّرْبِ وَمَا يُؤْلِمُ بَدَنَهُ الثَّامِنُ أَنْ تَمْنَعَهُ حَقَّهُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ رَدِّ مَظْلَمَةٍ وَكُلُّ ذَلِكَ حرام

وأقل درجات الحقد أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما تعصي الله به ولكن تستثقله في الباطن ولا تنهي قلبك عن بغضه حتى تمتنع عما كنت تطوع به من البشاشة والرفق والعناية والقيام بحاجاته والمجالسة معه على ذكر الله تعالى والمعاونة على المنفعة له أو بترك الدعاء له والثناء عليه أو التحريض على بره ومواساته فهذا كله مما ينقص درجتك في الدين ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل وإن كان لا يعرضك لعقاب الله

وَلَمَّا حَلَفَ أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مسطح وَكَانَ قَرِيبَهُ لكونه تكلم في واقعة الإفك نزل قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم إلى قوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم فَقَالَ أبو بكر نَعَمْ نُحِبُّ ذَلِكَ وَعَادَ إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ (٢)

وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَزِيدَ في الإحسان مجاهدة في لِلنَّفْسِ وَإِرْغَامًا لِلشَّيْطَانِ فَذَلِكَ مَقَامُ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ من فضائل أعمال المقربين فللمحقود ثلاثة أحوال عند القدرة أحدها أن يستوفي حقه الذي يستحقه من غير زيادة أو نقصان وهو العدل الثاني أن يحسن إليه بالعفو والصلة وذلك هو الفضل الثالث أن يظلمه بما لا يستحقه وذلك هو الجور وهو اختيار الأراذل والثاني هو اختيار الصديقين والأول هو منتهى درجات الصالحين ولنذكر الآن فضيلة العفو والإحسان


(١) حديث المؤمن ليس بحقود تقدم في العلم
(٢) حديث لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح نزل قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم الآية متفق عليه من حديث عائشة

<<  <  ج: ص:  >  >>