الدنيا وطالب حثيث يطلبه حتى يفارقها فلا تجزعوا لبؤسها وضرائها فإنه إلى انقطاع ولا تفرحوا بمتاعها ونعمائها فإنه إلى زوال عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه وغافل وليس بمغفول عنه
وقال محمد بن الحسين لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب إن الله عز وجل قد أهان الدنيا وأنه لم يرضها لأوليائه وأنها عنده حقيرة قليلة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها أكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي لبسوا من الثياب ما ستر العورة وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية وإلى الآخرة أنها باقية فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم أحب ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم
بيان صفة الدنيا بالأمثلة
اعلم أن الدنيا سريعة الفناء قريبة الانقضاء تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة وهي سائرة سيراً عنيفاً ومرتحلة ارتحالاً سريعاً ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها وإنما يحس عند انقضائها ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر لا تدرك حركته بالبصر الظاهر بل بالبصيرة الباطنة ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال
أحلام نوم أو كظل زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع
وكان الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتمثل كثيراً ويقول
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها ... إن اغتراراً بظل زائل حمق
وقيل إن هذا من قوله ويقال إن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه فقام وهو يقول
ألا إنما الدنيا كظل ثنية ... ولا بد يوماً أن ظلك زائل
وكذلك قيل
وإن امرأ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
مثال آخر للدنيا من حيث التغرير بخيالاتها ثم الإفلاس منها بعد إفلاتها
تشبه خيالات المنام وأضغاث الأحلام قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدنيا حلم وأهلها عليها مجازون ومعاقبون (١) وقال يونس بن عبيد ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه فكذلك الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فإذا ليس بأيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به وقيل لبعض الحكماء أي شيء أشبه بالدنيا قال أحلام النائم
مثال آخر للدنيا في عداوتها لأهلها وإهلاكها لبنيها اعلم أن طبع الدنيا التلطف في الاستدراج أولاً والتوصل إلى الإهلاك آخراً وهي كامرأة تتزين للخطاب حتى إذا نكحتهم ذبحتهم وقد روي أن عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة فقال لها كم تزوجت قالت لا أحصيهم قال
(١) حديث الدنيا حلم وأهلها عليها مجازون ومعاقبون لم أجد له أصلا