شقاء دنياهم وأخراهم، ولكن ما أتفه ما خسرت من هذه الصداقة الزائفة، التي تنقلب إلى عداوة عند الله:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}،- وكن واثقا بأنني سأعمل بإشارتك، وسأطير في هذه الأجواء الحبيبة إلى نفسك المغذية لأرواح بني جنسك، ما وسعني أن أطير، وما قدر جناحاي على التحليق.
ولكن المسألة لا تنتهي هنا، والمشكلة- كما يقول الإمام الغزالي- ليست النصيحة إنما المشكلة قبولها، إن قلوب الناس- يا أخي- قد صارت من القسوة بحيث لم يؤثر فيها الكلام المؤثر، ولا الوعظ البليغ الموجه، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، ليست مشكلتنا في عدم الدواء ولكن في عدم استعماله، وقد وضعت- أنت- يدك على موضع الداء، إذ قلت: ماذا ينفع المريض إذا كان الدواء في رحاله ولم يستعمله؟ وإذا قلت: إن معنا القرآن الخ .. نعم، إن معنا القرآن الذي بلغ من تأثيره أن يصفه الله بقوله:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ومع ذلك لا نتأثر به، ومن هنا يقول علي- كرم الله وجهه- عندما قابل أصحابه رأيه بالعصيان-: (لا رأي لمن لا يطاع)، وما الفائدة من وصف الدواء إذا كان لا يستعمله ذوو العلل والأمراض؟ ولمن تعد الأغذية الشهية إذا قوبلت بالصد والإعراض؟
فلا عجب أن نرى الغزالي بعد أن عرف المشكلة وقال كلمته المتقدمة يشفعها بقوله:
"غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد ... لغزلي نساجا فكسرت مغزلي"
لذلك كثيرا ما أعود على نفسي بالاتهام، وأشك في صدق نيتي وأقول: لعل الكدر من المنبع والمرض في الطبيب والدواء لم ينبت في أرض طيبة، والموعظة لم تصدر عن قلب صادق النية شريف القصد، (فإن الكلمة إذا خرجت من القلب، نفذت إلى القلب، وإذا خرجت من اللسان، لم تتجاوز الآذان)، وإذا كان المنبع كدرا كان المصب كدرا وإذا عجز الطبيب عن علاج نفسه، فهو عن علاج غيره أعجز، وإذن فلا يلم من أعرض عن دوائه ولم يثق بعلاجه، ولذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
" أصلح نفسك، يصلح لك الناس"، كما كان عمر رضي الله عنه قبل أن يذهب ليعظ