للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مراتب البذل ما كان عن إقلال، بل إن بعضهم ليغلو فلا يعد البذل عن سعة بذلا كمن يقول:

ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل

لأن السيادة احتمال مشقات وارتقاء عقبات لذلك يقول المتنبي:

لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال

ولكن هل الجود يفقر والإقدام قتال كما يقول المتني؟ كلا، فإن الله يقول:

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ويقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ويقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه - وقد قيل له: لو اتخذت حراسا-: لا حارس كالأجل، ومعناه أن من كان عمره ستين سنة فهو محروس بأجله حتى يستوفيها فلا يموت قبل ذلك، وإنما المتنبي يصور خوف الناس من الفقر إذا أريد منهم البذل وخوفهم من القتل إذا دعاهم واجب الكفاح، وتلك هي خدعة الشيطان يقف للإنسان في طريق الخير فهو الذي يخوف الناس من الفقر ومن القتل كما يقول الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} ويقول: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} ويقول: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فأعلى مراتب البذل ما كان عن إقلال وضيق يد، وأهل البذل في مجتمعنا هم المقلون وأوساط الشعب في الأعم الأغلب، أما أرباب الثراء الواسع الذين تجدهم الأمة في ساعة العسرة فما أقلهم وأندر وجودهم في مجتمعنا، وهذا من أوضح الأدلة على أن المال فتنة لأهله وأنهم لا ينتفعون به إذا لم يرزقوا وجدانا حيا وهمة عالية وإحساسا كريما وما أصدق بشارا إذ يقول:

خليلي إن المال ليس بنافع ... إذا لم ينل منه أخ وصديق

كذلك الحلم ليس بنافع وليس أداة للسيادة دائما وفي كل موطن بل ربما ذهب بالسؤدد، أو هوى به إلى قرار سحيق أو استحال إلى ذل وصغار.

فالحلم عمن يمس دينك أو مروءتك أو حريمك أو يدوس كرامة بلادك ليس من أداة السيادة وخلال النبل، والحلم بمعناه السامي النبيل جد قليل، ولا يغرنك ما تراه

<<  <   >  >>